مقدمة.
يعتبر القانون الدولي الخاص موضوعاً حديثاً نسبياً مقارنة مع باقي فروع القوانين الأخرى،و يُعرّف القانون الدولي الخاص بأنه "مجموعة القواعد القانونية التي تحكم العلاقات بين الأفراد و التي يتخللها عنصر أجنبي"،هذا المصطلح الأخير يمتد إلى أطراف العلاقة ،موضوع العلاقة و مكان قيام هذه العلاقة،و عليه فلو تعاقد جزائري مثلاً مع فرنسي كنَّا أمام علاقة ذات عنصر أجنبي تخص الأطراف،كما قد يتعاقد جزائريان بخصوص عقار متواجد في فرنسا فنكون هنا أيضاً أمام علاقة ذات عنصر أجنبي تخص موضوع هذه العلاقة و هو العقار المتواجد في فرنسا، و أخيراً فقد تنشأ العلاقة في بلد أجنبي فتوصف أيضاً بالعلاقة ذات العنصر الأجنبي كما لو صدم جزائري بسيارته جزائرياً آخر بفرنسا فكما أن أطراف العلاقة جزائريون فإن مكان نشوئها هو فرنسا فتخضع بالتالي لقواعد القانون الدولي الخاص.
أولاً : مواضيع القانون الدولي الخاص.
بغض النظر عن الاختلافات الفقهية يمكن القول أن نطاق القانون الدولي الخاص يتحدد بأربعة مواضيع أساسية:
أ-تنازع القوانين:و يقصد به الحالة التي ترتبط فيها العلاقة القانونية بقوانين عدة دول،فمثلاً زواج جزائري بفرنسية يطرح التساؤل التالي:أي قانون يخضع له عقد الزواج؟ هل هو القانون الجزائري كون الزوج جزائرياً؟ أم هو القانون الفرنسي لأن الزوجة فرنسية؟ و بمعنى آخر هناك تنازع بين القانونين الجزائري و الفرنسي،و السؤال المطروح هو كيف يتم حل هذا النزاع؟ هناك عدة مناهج في هذا المجال و يبقى أهم منهج هو ما يُعرف بقواعد التنازع أو قواعد الإسناد،و هي قواعد تنفرد كل دولة بوضعها بكل حرية ؛
ب-تنازع الاختصاص القضائي و تنفيذ الأحكام الأجنبية: الغرض من قواعد الاختصاص القضائي هو تحديد أي المحاكم مختصة دولياً،فمثلاً لو رفع فرنسيان مقيمان في الجزائر دعوى طلاق أمام القضاء الجزائري فإن التساؤل الذي يُطرح هنا هو: هل سيكون هذا القضاء مختصاً بالنظر في هذه الدعوى أم عليه أن يمتنع باعتبار أن الأطراف هم أجانب؟و ما على هؤلاء إلا اللجوء إلى القضاء الفرنسي باعتبارهم فرنسيين؟
و في سياق متصل فإنه قد يحدث أن يصدر حكم في دولة و يُراد تنفيذه في دولة أخرى فتُثار مسألة كيفية تنفيذ هذا الحكم،إذ من غير المستساغ أن ينفذ الأعوان المكلفون بتنفيذ الأحكام في الجزائر حكماً صادراً عن القضاء الفرنسي مثلاً إذ لا شك أن في ذلك مساس بسيادة الدولة،و يبقى السؤال المطروح حينها هو كيف يمكن تنفيذ حكم أجنبي دون المساس بالسيادة؟
ج-مركز الأجانب: موضوع آخر يدخل ضمن نطاق القانون الدولي الخاص و هو موضوع ما يسمى مركز الأجانب،إذ من المعلوم أن مركز هؤلاء يختلف كثيراً عن مركز المواطن و بالتالي يأتي موضوع مركز الأجانب ليبين حقوق هؤلاء و واجباتهم ؛
د-الجنسية: تعتبر من أهم مواضيع القانون الدولي الخاص، و تُعرّف الجنسية بصفة عامة بأنها الرابطة السياسية و القانونية التي تربط الفرد بدولته، و من خلال الجنسية يتحدّد من هو المواطن و من هو الأجنبي،و تحرص كل دولة على وضع قوانين للجنسية بكل حرية مراعية في ذلك ظروفها و إن كانت حريتها مقيدة بما تمليه الاتفاقيات الدولية في هذا المجال.
ثانياً:مصادر القانون الدولي الخاص.
تتحدد مصادر القانون حسب المادة الأولى من القانون المدني الجزائري بالتشريع،الشريعة الإسلامية،العرف و مبادئ القانون الطبيعي و قواعد العدالة، و هذه هي المصادر الأصلية و يقابلها المصادر الثانوية المتمثلة في القضاء و الفقه،غير أنه إذا ما رجعنا إلى القانون الدولي الخاص فإننا نجد مصادره مختلفة يمكن تقسيمها إلى مصادر داخلية و أخرى دولية:
أ)المصادر الداخلية.
يندرج ضمن المصادر الداخلية للقانون الدولي الخاص: التشريع، القضاء و الفقه.
1-التشريع: نجد في القانون الجزائري الكثير من القواعد التشريعية الخاصة بالقانون الدولي الخاص:
-في مجال تنازع القوانين نظم المشرع الجزائري هذا الموضوع في القانون المدني تحت عنوان "تنازع القوانين من حيث المكان" و ذلك في المواد من 9 إلى 24 ،و لقد تم إدخال تعديلات على هذه المواد بمقتضى التعديل الذي مسّ القانون المدني في 2005،و إذا كان الأصل أن غالبية نصوص القانون المدني الجزائري تجد مصدرها في القانون المدني الفرنسي فإن ذلك لا يصدق بخصوص المواد من 9 إلى 24،فقواعد التنازع الجزائرية لا تجد مصدرها في القانون المدني الفرنسي لسبب واحد و هو أن هذا القانون الأخير لا يحتوي على قواعد تنازع بل لديه فقط المادة الثالثة التي تحتوي على ثلاث فقرات: الأولى تقضي بإخضاع كل المقيمين في فرنسا لقواعد البوليس و الأمن،و تقضي الفقرة الثانية بإخضاع كل العقارات المتواجدة في فرنسا و لو كانت مملوكة لأجانب للقانون الفرنسي،بينما تقضي الفقرة الثالثة بإخضاع الفرنسيين في مجال الحالة و الأهلية للقانون الفرنسي و لو كانوا مقيمين في بلد أجنبي.
و أمام غياب نصوص قانونية تخص تنازع القوانين في القانون الفرنسي،لجأ المشرع الجزائري إلى أحكام القانون المدني المصري الصادر سنة 1948 ،و هذا يعني أن قواعد التنازع الجزائرية تجد مصدرها في القانون المدني المصري.
-في مجال تنازع الاختصاص القضائي و تنفيذ الأحكام القضائية نظم المشرع الجزائري الموضوع الأول في المادتين 41 و42 من قانون الإجراءات المدنية و الإدارية ،و هما مادتان منقولتان عن المادتين 14 و15 من القانون المدني الفرنسي،بينما تم تنظيم موضوع تنفيذ الأحكام الأجنبية في المواد من 605 إلى 608 من قانون الإجراءات المدنية و الإدارية ؛
-في مجال الجنسية تم تنظيم هذا الموضوع من خلال قانونين متعاقبين الأول صدر سنة 1963 و ظل ساري المفعول إلى أن تم إلغاؤه بمقتضى قانون 15 ديسمبر 1970 هذا الأخير هو الساري المفعول لحد الساعة، و لقد تم تعديل بعض مواده بمقتضى الأمر 05-01 الصادر في فيفري 2005 ؛
2-القضاء: أمام غياب نصوص قانونية تخص مسائل القانون الدولي الخاص في فرنسا اضطر القضاء الفرنسي إلى الاجتهاد و وضع الكثير من الأحكام خاصة في مجال تنازع القوانين،فأصبح للقضاء بالتالي دور جد مهم بل أصبح مصدراً من مصادر القانون الدولي الخاص في فرنسا،و يشهد على ذلك تنوع و كثرة القرارات الصادرة عن محكمة النقض الفرنسية ؛
3-الفقه: في مجال القانون الدولي الخاص للفقه دور مزدوج، فهو من جهة يقوم بتوجيه القضاء و إنارته إذ عادة ما يعمد الفقهاء إلى التعليق في مؤلفاتهم و في المجلات المتخصصة على الأحكام التي تصدرها المحاكم العليا،مما يضطر هذه الأخيرة إلى تقويم أحكامها وفق ما يراه الفقه الغالب ؛
و من جهة أخرى فلا أحد ينكر دور فقهاء المدارس القديمة و الحديثة في خلق الكثير من قواعد القانون الدولي الخاص خاصة في مجال تنازع القوانين،فهناك المدرسة الايطالية القديمة و التي يعود لها الفضل في وضع العديد من قواعد الإسناد،و هناك أيضاً فقهاء المدرسة الهولندية و الذين كانوا أول من بحث في أساس تطبيق القانون الأجنبي،و لفقهاء المدرسة الفرنسية أيضاً دورهم في هذا المجال إذ أنجبت هذه الأخيرة الكثير من الفقهاء قدامى و معاصرين أمثال (Dumoulin) و عميد القانون الدولي الخاص الأستاذ (Batifful).
ب)المصادر الدولية للقانون الدولي الخاص.
يندرج ضمن المصادر الدولية للقانون الدولي الخاص:المعاهدات الدولية،جهات القضاء الدولي و هيئات التحكيم الدولية :
1)المعاهدات الدولية: تُعرف المعاهدة بأنها اتفاق بين دولتين أو أكثر من أجل إيجاد حل لمسألة معينة،و تعتبر المعاهدات أهم مصدر للقانون الدولي الخاص و يظهر دورها في كونها تهدف إلى وضع حلٍ للصعوبات الناتجة عن اختلاف القوانين بين الدول،و إذا كان الأصل أن تقسم المعاهدات إلى معاهدات جماعية و ثنائية فإنه يمكن في مجال القانون الدولي الخاص و بالنظر إلى موضوع المعاهدة إيجاد تقسيم آخر هو: معاهدات موحدة لقواعد التنازع، و معاهدات موحدة للقواعد الموضوعية.
ففي النوع الأول هدف المعاهدة يقتصر فقط على توحيد ضوابط الإسناد بين الدول المتعاهدة،أما في النوع الثاني فلا يقتصر فيه واضعو المعاهدة على توحيد ضوابط الإسناد بل اللجوء إلى توحيد القواعد الموضوعية التي تحكم النزاع مباشرة؛
2)القضاء الدولي: عندما نتكلم عن القضاء الدولي فعادة ما نشير إلى أحكام محكمة العدل الدائمة في إطار عصبة الأمم سابقاً،و محكمة العدل الدولية حالياً في إطار منظمة الأمم المتحدة، و الحقيقة أن أحكام هاتين المحكمتين و المتعلقة بمواضيع القانون الدولي الخاص هي محدودة و نادرة لسببين: أولهما أن محكمة العدل الدولية لا تنظر إلا في القضايا التي تكون بين الدول و لا شأن لها بنزاعات الأفراد، و إن كان يمكن لها بصفة استثنائية و بطريقة غير مباشرة أن تفصل في بعض القضايا المتعلقة بالأفراد و ذلك في حالة "الحماية الدبلوماسية"،أما السبب الثاني فيرجع إلى طريقة اللجوء إلى محكمة العدل، إذ لا يمكن لهذه الأخيرة أن تنظر في النزاعات من تلقاء نفسها و بالتالي لا يتقرر اختصاصها إلا إذا تم رفع النزاع من طرف الدول،غير أن هاذين السببين لم يمنعا محكمة العدل الدولية من إصدار بعض الأحكام التي تندرج ضمن مسائل القانون الدولي الخاص،ففي مجال الجنسية قرّرت المحكمة سنة 1923 بأن للدول الحرية التامة و الكاملة في مادة الجنسية، و لا يقيّد هذه الحرية سوى ما تقضي به المعاهدات الدولية،و في مجال مركز الأجانب قرّرت المحكمة سنة 1926 بأنه ليس للدول أن تنزع الملكية دون تعويض و لو تعلق الأمر بأجانب؛
3)قواعد القانون الدولي الخاص غير المكتوبة.
يقصد بهذا المصدر تلك القواعد التي سارت الدول على إتباعها و العمل بها،و لقد كان للعرف دور كبير فيما مضى خاصةً في مجال تنازع القوانين،فقاعدة خضوع القرار لقانون موقعه مستقر عليها منذ وقت طويل،و نفس الشيء بالنسبة لقاعدة خضوع الفعل الضار لقانون المكان الذي نشأ فيه الفعل،هذا و يلاحظ أنه و إن كان للعرف دور كبير في مجال تنازع القوانين فإنه بالمقابل يتضاءل دوره كثيراً في باقي المواضيع الأخرى:كالجنسية و مركز الأجانب لارتباط هذه المواضيع بسيادة الدولة ، و الحقيقة أن العرف الدولي قد فقد الكثير من أهميته حالياً أمام تزايد حركة التقنين و تدخل المشرع بنصوص قانونية في أغلب مواضيع القانون الدولي الخاص،هذه الحقيقة جعلت بعض الفقهاء يتساءلون بحق عما إذا كان فعلاً يمكن حالياً اعتبار العرف الدولي مصدراً من مصادر القانون الدولي الخاص؟
4)قرارات هيئات التحكيم الدولية.
كثيراً ما يرفض رجال الأعمال و الشركات المتعددة الجنسيات اللجوء بخصوص نزاعاتهم إلى القضاء الداخلي باعتباره لا يتماشى في نظرهم مع مصالحهم الخاصة و يفضلون الاتجاه إلى جهات متخصصة تعرف بهيئات التحكيم،هذه الجهات يثبت لها الاختصاص باتفاق الأطراف المتنازعة و أهم ما يميزها هو أنها غير ملزمة بتطبيق قانون وطني معين و إنما تطبق ما يعرف بقانون التجار الذي يتكون من عادات و أعراف التجارة الدولية،كما تتميز هذه الجهات بتخصص الأشخاص الذين يتوّلون الفصل في النزاع و سرعة الفصل فيه.
هذا عن مصادر القانون الدولي الخاص، و مواضيعه و التي يقتضي تحليلها تقسيم الدراسة إلى قسمين: القسم الأول يتضمن ما يسمى بمنهج التنازع،أما القسم الثاني فهو يتضمن ما يسمى بالقواعد المادية أو المباشرة،و تسمى كذلك كونها تعطي حكم الحالة المعروضة بصفة مباشرة،و تشمل هذه القواعد بقية مواضيع القانون الدولي الخاص أي تنازع الاختصاص القضائي ،تنفيذ الأحكام،مركز الأجانب و الجنسية.
القسم الأول: منهج تنازع القوانين.
تفترض دراسة موضوع تنازع القوانين التعرض في البداية للقواعد العامة التي تحكم هذا الموضوع، ليتم التعرض بعد ذلك للحالات التطبيقية لتنازع القوانين.
الفصل الأول: النظرية العامة لتنازع القوانين.
المستقر عليه هو أن كل تنازع للقوانين يتم حله وفق ما يسمى بقواعد الإسناد أو قواعد التنازع، و تستدعي دراسة القواعد العامة لتنازع القوانين دراسة تفصيلية لقواعد الإسناد باعتبارها الوسيلة لحل كل تنازع للقوانين، و هو ما يتم عن طريق دراسة عناصر و خصائص قاعدة الإسناد،تفسير قاعدة الإسناد و إعمال قاعدة الإسناد.
المبحث الأول: عناصر قاعدة الإسناد و خصائصها.
الغرض من قاعدة الإسناد هو إيجاد حلٍ لتنازع القوانين الناشئ عن قيام علاقات دولية خاصة، و لكل قاعدة إسناد عناصر تتكون منها و لديها خصائص تميزها:
المطلب الأول : عناصر قاعدة الإسناد.
كل قاعدة إسناد تتكون من عنصرين: الفكرة المسندة و ضابط الإسناد،فأما الفكرة المسندة فيقصد بها قيام المشرع بجمع الحالات المتشابهة في طائفة مشتركة لاتحادها في العلة و النتيجة،فمثلاً:الطلاق،التطليق و الخلع هي فك الرابطة الزوجية فيقوم المشرع بجمع كل هذه الحالات في فكرة واحدة يعبر عنها بانحلال الزواج.
أما ضابط الإسناد فيعرف بأنه المرشد إلى تحديد القانون الواجب التطبيق،كما يوصف بأنه أداة ربط بين الفكرة المسندة و القانون الواجب التطبيق.
ففي مثالنا السابق الخاص بانحلال الزواج نجد المشرع الجزائري قد اعتمد ضابط إسناد معين و هو قانون جنسية الزوج وقت رفع الدعوى، و يترتب على إعمال ضابط الإسناد إخضاع العلاقة محل النزاع و إسنادها إلى قانون معين قد يكون أجنبياً كما قد يكون وطنياً.
*ما هي المعايير التي تدخل في تحديد ضابط الإسناد؟ كل مشرع و هو بصدد وضع ضوابط إسناد يراعي ما يعرف بعنصر الثقل في العلاقة القانونية،فلو كان عنصر الثقل متمثلاً في الأطراف كعلاقة الزواج مثلاً راع المشرع هذا العنصر و اعتمد ضابط إسنادٍ يتماشى معه فيقرر ضابط الجنسية مثلاً؛
أما إذا كان عنصر الثقل في العلاقة يميل إلى الأموال اعتمد المشرع ضابط إسناد يتوافق مع ذلك،فيأخذ بقانون موقع تلك الأموال.
*هل يمكن أن تتضمن قاعدة إسناد أكثر من ضابط إسناد واحد؟ الأصل أن تتضمن قاعدة الإسناد ضابط إسناد واحد غير أنه قد يعمد المشرع إلى وضع أكثر من ضابط إسناد لسببين رئيسيين:
السبب الأول: هو إعطاء أطراف العلاقة فرصة اختيار أكثر القوانين مُلاءَمة لحكم علاقتهم،هذا الحل اعتمده المشرع الجزائري في المادة 19 من القانون المدني الخاصة بشكل العقود الدولية إذ تضع هذه المادة أربعة ضوابط إسناد أي أربع قوانين للأطراف اختيار أيٍ منها؛
السبب الثاني: هو الحرص ألا تبقى العلاقة القانونية دون قانونٍ يحكمها،هنا و بخلاف الحالة الأولى حيث الضوابط الاختيارية نجد أن هناك ضابط أصلي و آخر احتياطي،فإذا ما استحال إعمال الأول تم الرجوع إلى الضابط الثاني و هو الاحتياطي؛
هذا الحل نجده مقرراً في المادة 18 من القانون المدني الخاصة بالعقود،إذ الأصل فيها أن تخضع لـ"قانون الإرادة"(أي القانون المتفق عليه من قبل الأطراف)و إن كان ذلك مقيداً بشروط،فإذا لم يتوفر مثل هذا الاتفاق و لكي لا يبق العقد دون قانون يحكمه يتم تطبيق قانون الجنسية المشتركة أو الموطن المشترك،غير أنه قد لا تتحد جنسية الأطراف و لا موطنهم في هذه الحالة يتم اللجوء إلى قانون مكان إبرام العقد و هو أمر يستحيل تصور عدم توفره.
المطلب الثاني: خصائص قاعدة الإسناد.
توصف قاعدة الإسناد بأنها غير مباشرة، مزدوجة و دولية.
الفرع الأول : صفتي "غير مباشرة" و "مزدوجة" لقاعدة الإسناد .
توصف قاعدة الإسناد بأنها غير مباشرة كونها لا تعطي حلاً مباشراً للنزاع و لا تحدد القواعد الموضوعية،بل يقتصر دورها على بيان القانون الواجب التطبيق،
و توصف قواعد الإسناد أيضاً بأنها قاعدة مزدوجة على اعتبار أن إعمالها قد يؤدي إلى إعطاء الاختصاص إما إلى القانون الأجنبي و إما إلى القانون الوطني،غير أنه في بعض الأحيان قد يضع المشرع بعض القواعد التي توصف بأنها أحادية و يقصد بقواعد الإسناد الأحادية تلك القواعد التي تقتصر على إعطاء الاختصاص التشريعي للقانون الوطني فقط،مثل المادة 13 من القانون المدني حيث تقضي هذه الأخيرة بتطبيق القانون الجزائري لوحده متى كان أحد الزوجين جزائرياً و ذلك في مجال انعقاد الزواج و آثاره و كذا انحلاله.
و الحقيقة أن المبدأ عند المشرع الجزائري هو صياغة قواعد إسناد مزدوجة إذ أن أغلب قواعد الإسناد في القانون المدني جاءت مزدوجة،أما القواعد الأحادية فهي نادرة و جاءت على سبيل الاستثناء.
الفرع الثاني: الصفة الدولية لقاعدة الإسناد.
توصف قاعدة الإسناد بالدولية كونها تهدف إلى حل مشكلة التنازع التي تحدث بين قوانين عدة دول،و هذا يعني أنه حتى نكون أمام تنازع حقيقي يجب أن تكون القوانين صادرة عن دول سواء كانت سيادتها كاملة أو ناقصة؛
غير أن الأمر هنا لا يخلو من إشكال،إذ ما الحكم لو أشارت قاعدة الإسناد إلى تطبيق قانون دولة غير معترف بها؟ أو أنها أشارت إلى تطبيق قانون دولة تعرف تعدداً إقليمياً أو طائفياً؟
أ)تطبيق قانون دولة غير معترف بها.
التساؤل المطروح هنا هو: هل يمكن للقاضي الجزائري مثلاً أن يطبق قانون دولة أجنبية لا تعترف بها الجزائر؟
يرى غالبية الفقه أنه لا يمكن للقاضي تطبيق قانون دولة لا تعترف بها دولته ،و يرجع أساس ذلك إلى كون أن المفروض في القاضي هو تطبيق قانون دول مندمجة في المجتمع الدولي و هذا الاندماج لا يتحقق إلا بالاعتراف الدولي،و عليه فإذا طبق القاضي الجزائري مثلاً قانون لا تعترف به الجزائر فإنه في الحقيقة قد وضع نفسه في موقف متناقض مع موقف دولته ،إذ سيطبق قانون دولة تتجاهلها الجزائر؛
هذا الموقف وجد تأييداً من قبل القضاء الفرنسي في إحدى قضاياه الشهيرة المعروفة بقضية" فيتنام الشمالية" التي فصلت فيها محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 2 نوفمبر 1972 ،حيث اعتبرت هذه المحكمة أنه لا يكفِ الوجود الفعلي للدولة من أجل تطبيق قوانينها بل يجب إضافةً إلى هذا الوجود الفعلي أن تكون هناك علاقة بين فرنسا و هذه الدولة الأجنبية،أياً كان نوع هذه العلاقة و دون أن تصل بالضرورة إلى مستوى العلاقات السياسية؛
و إذا كان هذا هو المستقر عليه بخصوص تطبيق قانون دولة غير معترف بها،فإن التساؤل قد يطرح من جديد بخصوص إمكانية تطبيق قانون دولة هي معترف بها من قبل دولة القاضي غير أنه ليس هناك اعتراف بالسلطة التي تمارس السيادة بالدولة؟ هذه الحالة لا تمنع عند الكثير من الفقه تطبيق قانون هذه الدولة على أساس من القول أن مسألة الاعتراف بالحكومة لا تؤثر على وجود الدول في إطار المجتمع الدولي،بل تبقى أمراً سياسياً يجب ألا يؤثر في العلاقات الخاصة بين الأفراد.
ب) تطبيق قانون دولة تتعدد فيها القوانين و الطوائف.
قد تشير قاعدة الإسناد إلى تطبيق قانون دولة مركبة تتكون من عدة دويلات لكل منها قانونها الخاص بها كالولايات المتحدة الأمريكية، و هذا ما يسمى بالتعدد الإقليمي ،كما قد تشير قاعدة الإسناد إلى تطبيق قانون دولة أجنبية تتعدد فيها الطوائف و المِلل كلبنان مثلاً،و هذا ما يسمى بالتعدد الطائفي،و في كلتا الحالتين سيجد القاضي نفسه أمام مشكلة تحديد أي قانون داخلي سيقوم بتطبيقه؟فمثلاً لو أشارت قاعدة الإسناد الجزائرية إلى تطبيق القانون الأمريكي فإن المشكل الذي يطرح أمام القاضي هو وجوب تحديد قانون أي ولاية أمريكية يجب أن يطبق على اعتبار أن كل ولاية من هذه الولايات لها قانونها الخاص بها؟و نفس التساؤل سيطرح لو أشارت قاعدة الإسناد إلى تطبيق القانون اللبناني مثلاً على اعتبار أن هذه الدولة تعرف تعدداً طائفياً يؤدي إلى إخضاع كل طائفة في مجال الأحوال الشخصية إلى قانون خاص بها،و هو ما يعني وجود أكثر من قانون للأحوال الشخصية؛
مسألة التعدد الإقليمي و الطائفي تعرض لها المشرع في المادة 23 من القانون المدني حيث وضع لها حلين :أحدهما الأصل و الآخر احتياط ،أما الحل الأصلي فيتمثل في وجوب رجوع القاضي الجزائري إلى أحكام القانون الداخلي للقانون الأجنبي الواجب التطبيق،فإذا وجد أن نصوص هذا الأخير تعطي حلاً معيناً تعين عليه الأخذ بذلك الحل (الإحالة الداخلية)؛
أما إذا لم توجد في القانون الأجنبي قاعدة داخلية تبين الحل الواجب الإتباع،هنا تقرر الفقرة 2 من المادة 23 تطبيق قانون عاصمة الدولة المركبة و هذا في حالة التعدد الإقليمي،كما يتم تطبيق التشريع الغالب إذا تعلق الأمر بتعدد طائفي.
المبحث الثاني: تفسير قاعدة الإسناد.
إن القاضي و هو بصدد تطبيق قواعد الإسناد مضطر إلى المرور بمرحلة أولية تتمثل في تفسير هذه القاعدة و الكشف عن موضوعها،و عليه فحتى يتمكن هذا القاضي من إيجاد القانون الواجب التطبيق عليه أن يمر بداية بمرحلة تكييف العلاقة القانونية محل النزاع،فإذا انتهى من ذلك و ثبت الاختصاص لقانون أجنبي فقد يجد القاضي نفسه أمام مشكلة أخرى تتمثل في مدى إمكانية رجوع هذا الأخير إلى القواعد الموضوعية الموجودة في القانون الأجنبي فقط،أو يمكنه أن يرجع أيضاً إلى قواعد الإسناد الموجودة ضمن هذا القانون الأجنبي و هذا ما يسمى بالإحالة:
المطلب الأول: التكييف.
يعرف التكييف بأنه تحديد طبيعة العلاقة التي تتنازعها القوانين من أجل إدراجها ضمن طائفة من النظم القانونية، من أجل إسناد حكمها لقانون معين.
و لقد ثار الجدل حول القانون الذي تتم على ضوئه عملية التكييف، و لقد كان لهذا الجدل الفقهي أثره على التشريعات الوطنية.
الفرع الأول: النظريات الفقهية حول القانون الذي يخضع له التكييف.
هناك ثلاث نظريات حاولت تحديد القانون الذي يخضع له التكييف:
أولاً: إخضاع التكييف لقانون القاضي.
صاحب هذه النظرية هو الفقيه (BARTI N)الذي يرى أن التكييف يجب أن يكون وفقاً للمبادئ القانونية السائدة في دولة القاضي الذي ينظر في النزاع،و يبرر مثل هذا الموقف بثلاث حجج رئيسية و هي: أولها تقوم على فكرة السيادة فعند هذا الفقيه تنازع القوانين ما هو في الحقيقة سوى تنازع للسيادات و سماح المشرع الوطني بتطبيق قوانين أجنبية،ما يعني في الحقيقة تنازله عن جزء من سيادته و بالتالي فيجب الرجوع إلى القانون الوطني لتبيان قدر هذا التنازل و حدوده،أما الحجة الثانية فقوامها أن التكييف ما هو في الحقيقة سوى تفسير لقاعدة الإسناد الوطنية،و عليه يكون من المنطق أن يتم هذا التفسير و بالتالي التكييف وفق القانون الوطني للقاضي،و تبقى الحجة الثالثة التي تقضي بأن التكييف يكون في مرحلة سابقة للإسناد أي قبل إيجاد القانون الواجب التطبيق،و هذا يعني أنه في مرحلة التكييف لا نكون سوى أمام قانون واحد هو قانون القاضي و الذي ينبغي أن يكون هو المرجع في إجراء عملية التكييف،هذا و يلاحظ أنه و إن كان (BARTI N) قد أخضع التكييف لقانون القاضي فإنه بالمقابل وضع استثناءين لنظريته:الأول يتعلق بالتفرقة بين التكييف الأولي أو السابق و التكييف الثانوي أو اللاحق،و الاستثناء الثاني يخص وصف المال.
1-التفرقة بين التكييف الأولي و الثانوي.
التكييف الأولي هو التكييف الذي نحن بصدد دراسته و هو الذي يكون قبل الإسناد و إيجاد القانون الواجب التطبيق،و هذا النوع من التكييف يكون على ضوء قانون القاضي،أما التكييف الثانوي فهو الذي يكون بعد مرحلة الإسناد و إيجاد القانون المطبق ،و هذا النوع من التكييف يكون على ضوء القانون الأجنبي المختص؛
2-تحديد وصف المال.
تحديد وصف المال كونه منقولاً أو عقاراً لا يخضع إلى قانون القاضي بل إلى قانون موقع ذلك المال،و تبريره لذلك ضمان استقرار المعاملات و سلامتها،و تظهر أهمية التفرقة بين العقار و المنقول في القانون الفرنسي في مسألة الميراث،إذ يفرق هذا القانون بين الميراث في العقار حيث يخضعه لقانون موقعه و بين الميراث في المنقول و هذا يخضع لآخر موطن للمتوفي.
ثانياً:إخضاع التكييف للقانون الأجنبي المختص.
يرى بعض الفقهاء أن التكييف يجب أن يكون على ضوء القانون الأجنبي الذي قد يحكم النزاع، و يبرر مثل هذا الموقف بالقول أنه عندما تعطي قاعدة الإسناد الاختصاص لقانون أجنبي فإنه يجب تطبيق هذا القانون بشكل كامل،بحيث يشمل ذلك حتى التكييف أو الوصف القانوني الذي يعطيه للعلاقة محل النزاع.
غير أن هذه النظرية قوبلت بمعارضة شديدة إذ قيل عنها أنها تؤدي إلى الدوران في حلقة مفرغة وعبارة عن مصادرة على المطلوب،فالتكييف يسبق عملية الإسناد و إيجاد القانون الواجب التطبيق، في حين أن هذه النظرية تفترض أن القانون الأجنبي هو واجب التطبيق،و هذا غير صحيح فهذا القانون في الحقيقة هو محتمل التطبيق،تطبيقه يتوقف في الأصل على التكييف الذي يعطيه القاضي للنزاع، و بالتالي فكيف يمكن القول بإخضاع هذا التكييف لقانون أجنبي و هو قانون لم يتحدد بعد اختصاصه.
ثالثاً:إخضاع التكييف للقانون المقارن.
وفق أنصار هذه النظرية فإن القاضي و هو بصدد إجراء عملية التكييف لا يستند على قانون واحد فقط،بل عليه أن يقوم بدراسة مقارنة لمختلف الأنظمة القانونية ليستخلص منها النظام القانوني الأنسب و الذي على ضوئه يقوم بعملية التكييف،غير أن هذه النظرية تم انتقادها لسببين أساسيين:فمن جهة هي صعبة التطبيق من الناحية العملية،إذ يستحيل على القاضي أن يُلِّم بجميع القوانين الموجودة في العالم حتى يقوم بالمقارنة بينها،و من جهة أخرى فإنه حتى لو سلمنا بإمكانية قيام القاضي بالمقارنة بين الأنظمة القانونية لاستخلاص القانون الأنسب فإن هذا القاضي و بحكم تكوينه سينتهي في النهاية إلى إخضاع التكييف لقانونه الوطني بحجة أنه الأنسب.
الفرع الثاني: موقف القضاء و التشريع من مسألة القانون الذي يخضع له التكييف.
كان القضاء الفرنسي يكيف دائماً النزاعات المعروضة أمامه وفق مبادئ القانون الفرنسي متأثراً في ذلك بنظرية ( Bartin)،غير أنه لم يشر إلى ذلك صراحة حتى في قضاياه الشهيرة كقضية "حصة الزوج المحتاج" و المعروفة أيضاً بـ"ميراث المالطي"،و قضية "وصية الهولندي"،و كان يجب انتظار سنة 1955 لتعلن محكمة النقض صراحة في حيثيات قرار أصدرته أن "تحديد و تكييف ما إذا كانت الطقوس الدينية في الزواج تدخل ضمن الشروط الموضوعية أو الشكلية للزواج يجب أن تكون وفق المفاهيم و المبادئ السائدة في القانون الفرنسي" ؛
أما في القانون الجزائري فيظهر جلياً في المادة 9 من القانون المدني التي تنص على ما يلي "يكون القانون الجزائري هو المرجع في تكييف العلاقات المطلوب تحديد نوعها عند تنازع القوانين،لمعرفة القانون الواجب التطبيق"،و يتضح من خلال هذه المادة أن المشرع الجزائري يُخضع التكييف للقانون الجزائري أي لقانون القاضي مع الإشارة إلى أن التكييف المقصود هنا هو التكييف الأولي و ليس الثانوي، و بذلك يكون المشرع قد تأثر هو أيضاً بدوره بنظرية (Bartin)،و هو تأثر جاء كاملاً حيث شمل حتى الاستثناء،إذ بعد أن قررت المادة 9 قانون مدني إخضاع التكييف لقانون القاضي،أدخلت المادة 17 من القانون المدني استثناءاً على هذه القاعدة مقررة إخضاع تكييف المال كونه عقاراً أو منقولاً لا إلى قانون القاضي و إنما لقانون الدولة التي يوجد فيها،و تظهر أهمية التفرقة بين المنقول و العقار في القانون الجزائري في مجال العقود حيث تخضع كأصل عام لقانون الإرادة بينما تخضع العقارات لقانون موقعها.
المطلب الثاني: الإحالة.
كل دولة تنفرد و بمطلق الحرية بوضع قواعد إسناد لتنظيم مسألة تنازع القوانين و لها أيضاً مطلق الحرية في اعتماد أي ضابط إسناد تراه ملائماً لحكم العلاقة،فمثلاً في مجال الأحوال الشخصية من الدول من تسندها إلى قانون الجنسية،و منها من يسندها إلى قانون الموطن،هذا الاختلاف يؤدي إلى نشوء نوعين من التنازع،تنازع إيجابي و تنازع سلبي،فأما النوع الأول (الايجابي) فيكون عندما يقبل كل من القانون الوطني و القانون الأجنبي حكم العلاقة موضوع النزاع،و مثال ذلك: جزائري متوطن بانجلترا قام بتصرف متعلق بأهليته،هنا كل من القانون الجزائري و الانجليزي سيكون مختصاً،إذ لو رفع نزاع أمام القضاء الجزائري فإن القانون الجزائري سيختص طبقاً للمادة 10 من القانون المدني التي تقضي بإخضاع الأشخاص في مجال الحالة و الأهلية لقانون جنسيتهم،كما سيكون القانون الانجليزي أيضاً مختصاً لو رفع النزاع أمام القضاء الانجليزي كون أن قاعدة الإسناد هناك تقضي في مجال الحالة و الأهلية بتطبيق قانون الموطن (أي الانجليزي)،على اعتبار أن الجزائري موطنه في انجلترا و هذا هو التنازع الإيجابي.
أما التنازع السلبي فيكون في الحالة التي يرفض فيها كلا القانونين حكم العلاقة محل النزاع.
فمثلاً: انجليزي متوطن بالجزائر رفع دعوى تتعلق بالحالة و الأهلية أمام القضاء الجزائري هنا تطبيقاً للمادة 10 من القانون المدني فالقاضي سيطبق القانون الانجليزي باعتباره قانون جنسيته،غير أنه عندما يرجع للقانون الانجليزي يجد أن قاعدة الإسناد تقضي بتطبيق قانون الموطن،و بما أن الانجليزي متوطن بالجزائر فإن القانون الذي يكون واجب التطبيق هنا هو القانون الجزائري،و هذا ما يسمى عند فقهاء القانون الدولي الخاص بالإحالة،و التي تكون في حالة التنازع السلبي،و منه يمكن القول أن الإحالة تتحقق عندما يرجع القاضي الوطني لقواعد الإسناد المنصوص عليها في القانون الأجنبي الواجب التطبيق،و ترجع جذور الإحالة إلى قرارين شهيرين أصدرتهما محكمة النقض الفرنسية في 24 جويلية 1878 و 22 فبراير 1882 في نفس القضية و التي تعرف بقضية (forgo).
أنواع الإحالة.
هناك إحالة من الدرجة الأولى و إحالة من الدرجة الثانية،أما من الدرجة الأولى فتكون عندما تشير قاعدة الإسناد الوطنية إلى تطبيق قانون أجنبي فتحيل قاعدة الإسناد في هذا القانون الأجنبي من جديد إلى قانون القاضي،و هذا يعني أن العلاقة يتنازعها قانونان فقط،يحيل كل منهما إلى الآخر؛
أما الإحالة من الدرجة الثانية فتكون عندما تشير قاعدة الإسناد الوطنية إلى تطبيق قانون أجنبي فتحيل قاعدة الإسناد في هذا القانون لا إلى قانون القاضي بل إلى قانون آخر،فمثلاً: انجليزي متوطن بالمغرب رفع دعوى تتعلق بأهليته أمام القضاء الجزائري فالقاضي الجزائري سيطبق القانون الانجليزي كونه انجليزي الجنسية،غير أنه عندما يرجع إلى قواعد الإسناد الانجليزية فيجدها تحيل إلى القانون المغربي باعتباره قانون موطن ذلك الانجليزي.
الفرع الثاني : تأصيل نظرية الإحالة.
ظهرت عدة نظريات تحاول البحث في أساس سليم لتأصيل نظرية الإحالة،فالبعض قال بنظرية التفويض،و المقصود بذلك أن قاعدة الإسناد الوطنية عندما تشير إلى تطبيق القانون الأجنبي فهي تفوض الاختصاص بهذا القانون بأكمله سواء الأحكام الموضوعية أو تلك الخاصة بقواعد الإسناد،البعض الآخر قال بفكرة قاعدة الإسناد الاحتياطية و تقوم هذه الفكرة على افتراض وجود قاعدة إسناد احتياطية تقضي بأنه متى أعطي الاختصاص لقانون أجنبي و رفض هذا الأخير حكم العلاقة موضوع النزاع،كان القاضي ملزماً بتطبيق قانونه الوطني،غير أن هذه النظرية تم انتقادها لسببين: فهي من جهة تقوم على الافتراض فقط و لا تستند لأي نص قانوني،و من جهة أخرى هي تبرر الإحالة من الدرجة الأولى و تبقى عاجزة عن تأصيل الإحالة من الدرجة الثانية.
جانب آخر من الفقه استند إلى فكرة النظام العام كأساس للإحالة، حيث قالوا: أنه متى أعطت قاعدة الإسناد الوطنية الاختصاص لقانون أجنبي و رفض هذا الأخير اختصاصه و أحال إلى القانون الوطني، كان على القاضي قبول هذه الإحالة و تطبيق قانونه لأنه إن لم يفعل ذلك بقيت تلك العلاقة دون قانون يحكمها و هو أمر يتعارض مع النظام العام،و الحقيقة أنه لفهم الأساس الذي تقوم عليه نظرية الإحالة وجب الرجوع إلى أصلها التاريخي،فالقضاء الفرنسي لم يأخذ بها في قضية (forgo) إلا لاعتبارين أساسيين: الأول هو المصلحة الوطنية إذ كان من مصلحة الدولة الفرنسية أن تحصل على تلك الأموال التي تركها،أما الاعتبار الثاني فهو تسهيل عمل القضاة و إتاحة الفرصة لهم لتطبيق قوانينهم الوطنية،فقبول الإحالة و بالضبط تلك التي تكون من الدرجة الأولى يعني تطبيق القانون الوطني،و هو قانون يفترض علم القاضي به بخلاف القانون الأجنبي الذي قد يجهله تماماً هذا القاضي مما يعني صعوبة البحث عن مضمونه،و لا يخفى على أحد صعوبة ذلك بل استحالته في بعض الأحيان،و هي كلها أمور يمكن تجاوزها عن طريق قبول الإحالة.
الفرع الثالث: نطاق الأخذ بالإحالة.
إذا كان القضاء الفرنسي قد جرى على الأخذ بالإحالة و سايره في ذلك الكثير من القوانين في العديد من المجالات،فإنه من المتفق عليه استبعاد الإحالة في حالتين: الأولى تخص المسائل الخاصة بقانون الإرادة،و الثانية تخص شكل التصرفات القانونية.
أولاً: استبعاد الإحالة في المسائل التي تخضع لقانون الإرادة.
المبدأ المقرّر في الكثير من القوانين هو إخضاع العقود لقانون الإرادة أي ذلك الذي اتفق الأفراد على تطبيقه،و على القضاة احترام هذه الإرادة و هو ما قد لا يتحقق لو تم الأخذ بالإحالة،فلو اتفق شخصان على أن يخضع تعاملهما قانوناً للقانون الجزائري ثم ثار نزاع بينهما أمام القضاء الفرنسي وجب على هذا الأخير تطبيق أحكام القانون الجزائري حتى ولو أحالت قواعد الإسناد في هذا القانون لقانون آخر،إذ يجب هنا استبعاد الإحالة و تطبيق القانون الجزائري احتراماً لإرادة الأطراف،و قد أخذت بعض المعاهدات الدولية بهذا الحل،فمعاهدة "لاهاي" 1955 الخاصة بالبيوع الدولية المتعلقة بالمنقولات المادية،نصت صراحة في مادتها 2 على استبعاد الإحالة،و كذلك فعلت معاهدة "روما" لسنة 1980 و المتعلقة بالقانون الواجب التطبيق على الالتزامات التعاقدية،حيث نصت المادة 5 منها على استبعاد الإحالة.
ثانياً: وجوب استبعاد الإحالة في مجال شكل التصرفات.
القاعدة المقررة في الكثير من القوانين هي إخضاع شكل التصرفات القانونية لقانون مكان الإبرام، و عليه فإذا أبرم شخصان عقداً في الجزائر اتبعا الإجراءات الشكلية المنصوص عليها في القانون الجزائري كان عقدهما صحيحاً و كان بالإمكان الاحتجاج به أياً كان،و لنفرض أنه رفعت دعوى بشأن هذا العقد أمام القضاء الفرنسي،فالقاضي هنا ملزم بالرجوع لأحكام القانون الجزائري ليتأكد من مدى احترام الأطراف للأحكام الواردة في هذا القانون،و عليه أن يمتنع عن الأخذ بالإحالة لسبب بسيط و هو أن القانون الجزائري الذي أبرم العقد تحت سلطانه و كان هذا العقد صحيحاً من الناحية الشكلية قد يحيل إلى قانون آخر يعتبر ذلك العقد باطلاً،أي أنه من شأن الأخذ بالإحالة أن يؤدي إلى بطلان التصرف،و هذا يتنافى مع "مبدأ احترام الحقوق المكتسبة".
الفرع الرابع: الإحالة بين التأييد و الرفض و موقف المشرع الجزائري.
إن القضاء الفرنسي و إن كان قد اعتمد الإحالة فإن ذلك لا يعني أن موقفه هذا يلقى التأييد التام من قبل الفقه،و هذا يعني أيضاً أنه ما تزال لحد الساعة الاختلافات قائمة بين الفقهاء حول قبول الإحالة أو رفضها،و كان لذلك تأثيره على قوانين الدول بين آخذ بالإحالة و رافض لها.
أولاً: الاتجاه المؤيد للأخذ بالإحالة.
يستند أنصار هذا الاتجاه على عدة حجج:
-إن الأخذ بالإحالة و بالضبط من الدرجة الأولى فيه تسهيل لمهمة القاضي إذ سيقوم بتطبيق قانونه الوطني،و هو قانون يعلمه جيداً بخلاف القانون الأجنبي الذي قد يجهله أو يسيء تفسيره فيطبقه بشكل خاطئ؛
-إن القاضي الوطني عندما يرجع إلى قانون أجنبي فعليه أن يطبق أحكام هذا القانون برمته و لا يقتصر على تطبيق القواعد الموضوعية دون قواعد الإسناد، و إلا قام بتجزئة هذا القانون دون مبرر؛
-إن رفض الإحالة و تطبيق قانون أجنبي يعني أن القاضي الوطني يطبق قانوناً هو أصلاً يرفض اختصاصه و يأبى أن يطبق على النزاع؛
ثانياً: الاتجاه الرافض للأخذ بالإحالة.
يستند هذا الاتجاه على الحجج التالية:
-من شأن الأخذ بالإحالة خاصة من الدرجة الثانية أن يؤدي إلى الدوران في حلقة مفرغة؛
-في الأخذ بالإحالة مساس بسيادة الدولة و ذلك في الحالة التي تكون فيها قواعد الإسناد منصوصاً عليها في الدستور؛
-في الأخذ بالإحالة مساس بتوقعات الأفراد خاصة في مجال الأحوال الشخصية،إذ قد تطبق عليهم قوانين لا تتماشى مع ديانتهم أو نظامهم القانوني،مما يؤدي إلى الإجحاف بحقوقهم.
ثالثاً: موقف المشرع الجزائري من الإحالة.
لم تكن الإحالة محل تنظيم تشريعي و لم تتح للقضاء الجزائري فرصة التعرض لهذه المسألة،و كان الرأي لدى الكثير من الشرّاح في الجزائر هو وجوب استبعاد الإحالة،على الأقل في مجال الأحوال الشخصية على اعتبار أن قانون الأسرة الجزائري يجد مصدره في الشريعة الإسلامية،و هو ما يؤدي في حالة الأخذ بالإحالة إلى احتمال تطبيق الكثير من أحكام الشريعة على غير المسلمين،و في ذلك مساس بمعتقداتهم و خضوع لأحكام غريبة تماماً عنهم،لكن يبدو أن جميع هذه الاعتبارات لم تأخذ بعين الاعتبار من قبل المشرع الجزائري أثناء تعديله للقانون المدني سنة 2005،حيث قرّر صراحة في المادة 23 مكرر 1 فقرة 2 تطبيق القانون الجزائري متى أحالت إليه قواعد التنازع الأجنبية،و هذا يعني القبول بالإحالة من الدرجة الأولى،كما يفهم أيضاً من عبارات الفقرة1 من نفس المادة (23مكرر1) أنه يتم استبعاد الإحالة من الدرجة الثانية.
المبحث الثالث: إعمال قاعدة الإسناد.
إن تطبيق قاعدة الإسناد من طرف القاضي الوطني قد يؤدي في أحوال كثيرة إلى تطبيق قانون أجنبي،غير أن ذلك لا يعني أن القاضي ملزم بتطبيقه في كل الأحوال،إذ قد تظهر حالات يتوجب فيها الامتناع عن هذا التطبيق،و منه فإن موضوع إعمال قاعدة الإسناد يطرح مسألتين أساسيتين يتوجب دراستهما : الأولى تتعلق بتطبيق القانون الأجنبي، و الثانية تخص موانع تطبيق هذا القانون:
المطلب الأول: تطبيق القانون الأجنبي.
يقصد بالقانون الأجنبي النظام القانوني الساري المفعول بالدولة الأجنبية التي أشارت قاعدة الإسناد الوطنية بتطبيق قانونها،و يدخل ضمن مفهوم النظام القانوني كل الأحكام و القواعد المطبقة في الدولة الأجنبية،كالتشريع و العرف،قواعد الدين و السوابق القضائية مع وجوب الإشارة هنا إلى أن القوانين الأجنبية المطبقة هي تلك المتعلقة بالعلاقات الخاصة أي فروع القانون الخاص،كالقانون التجاري،المدني،البحري و الأحوال الشخصية،أما القوانين ذات الطابع العام،فالأصل فيها أنها إقليمية و لا تطبق خارج حدود إقليمها لارتباطها بسيادة الدولة،ذلك هو الحال بالنسبة للقانون الدستوري و القانون الإداري مثلاً،و تطرح مسألة تطبيق القانون الأجنبي نقطتين أساسيتين:الأولى تتعلق بأساس تطبيق هذا القانون،و الثانية تخص كيفية تعامل القضاء الوطني مع القانون الأجنبي و هو بصدد تطبيقه،و هذا ما يعرف بمركز القانون الأجنبي أمام القضاء الوطني.
الفرع الأول: أساس تطبيق القانون الأجنبي.
قد تعطي قاعدة الإسناد الاختصاص لقانون أجنبي و هنا يثور التساؤل التالي:كيف يمكن أن نعترف لهذا القانون بسلطة حل النزاع و هو قانون صادر عن مشرع أجنبي؟و هل تطبيق القاضي الوطني لقانون أجنبي يعني خضوعه لأوامر المشرع الأجنبي؟
ظهرت بهذا الخصوص عدة نظريات،فهناك آراء فقهاء المدرسة الهولندية الذين قالوا بفكرة المجاملة الدولية حيث لا شيء يلزم القضاء بتطبيق قوانين أجنبية فإن فعل ذلك فمن باب المجاملة،و هناك أيضاً نظرية الحقوق المكتسبة التي ناد بها بعض الفقهاء الأمريكيين،غير أن أهم النظريات التي خاضت في أساس تطبيق القانون الأجنبي تبقى تلك التي رددها بعض الفقه الفرنسي و التي تعتبر القانون الأجنبي واقع،و هو موقف يقابله اتجاه معاكس ينادي بوجوب معاملة القانون الأجنبي كقانون.
1)تطبيق القانون الأجنبي على أساس اعتباره واقعة.
يتزعم هذا الموقف القضاء الفرنسي و يؤيده في ذلك الكثير من الفقهاء،و الحقيقة أن هذا القضاء لم يبحث يوماً في أساس تطبيق القانون الأجنبي غير أنه عامله معاملة تختلف عن القانون الوطني،ففي اجتهاد قديم: قضاة الموضوع غير ملزمين بتطبيق القانون الأجنبي تلقائياً و إنما عليهم انتظار طلب الخصوم،كما أن إثبات مضمون القانون الأجنبي يكون على عاتق من يطالب بتطبيقه،ثم إن كل خطأ في تطبيق القانون الأجنبي لا يخضع كأصل عام لرقابة محكمة النقض؛
كل هذه الشروط جعلت الفقه يذهب إلى القول بأن محكمة النقض الفرنسية تعامل القانون الأجنبي كواقعة،و هو ما يترتب عليه نتيجة أهمها: إمكانية تنازل الأطراف عن تطبيقه،و عدم إمكانية التمسك به أمام محكمة الدرجة الثانية كطلب جديد،و غيرها من النتائج التي تترتب على الوقائع.
2)تطبيق القانون الأجنبي باعتباره قانون.
يقوم هذا الاتجاه على فكرة التأكيد على الطبيعة القانونية للقانون الأجنبي،و من ثم وجوب معاملته كقانون،غير أن أنصار هذا الاتجاه انقسموا إلى قسمين: فمنهم من ناد بتطبيق القانون الأجنبي باعتباره قانوناً وطنياً و هؤلاء هم أنصار نظرية الاستقبال، و سميت كذلك لأنها تقوم على فكرة أساسية مفادها أن القانون الوطني يقوم باستقبال القواعد القانونية الأجنبية و يدمجها ضمن قواعده و أحكامه،فيصبح مكوناً من جزء منها.
و بهذا الاندماج في القانون الوطني سيتحول القانون الأجنبي إلى جزء من هذا الأخير،و يغدو القاضي الوطني و كأنه يطبق قانونه و يأتمر بأمر مشرعه،فيكون بالتالي ملزماً بتطبيقه و لو لم يطالب به الخصوم،كما يلزم بالبحث عن مضمونه و يخضع لرقابة المحكمة العليا.
غير أن اتجاهاً ثانياً رفض مثل هذا الموقف،و اعتبر أن القانون الأجنبي عندما يطبق أمام القاضي الوطني يجب أن يعامل لا كواقعة و إنما كقانون ليس وطنياً و إنما أجنبي،و بمعنى آخر القانون الأجنبي يجب أن يحافظ و هو يطبق خارج محاكم دولته على طابعه القانوني و الأجنبي في نفس الوقت،لكن هنا يثور التساؤل من جديد إذ كيف يمكن أن نفسر أن القاضي الوطني يطبق قانوناً أجنبياً هو من وضع مشرع أجنبي؟ أفلا يعني ذلك خضوع هذا القاضي لأوامر هذا المشرع؟ يجيب أنصار هذا الاتجاه بالقول أن تطبيق القانون الأجنبي يجد أساسه في قاعدة الإسناد الوطنية ذاتها،فهذه الأخيرة هي التي تعطي عنصر الإلزام للقانون الأجنبي و يبقى بذلك محتفظاً بطابعه القانوني و الأجنبي،و يطبقه القاضي بهذه الصفة و هو إذ يقوم بذلك فإن هذا لا يعني إطلاقاً أنه يأتمر بأمر مشرع أجنبي بل لأن قواعد إسناده الوطنية هي التي قضت بذلك.
3)أساس تطبيق القانون الأجنبي في القانون الجزائري.
هل يعتبر المشرع الجزائري القانون الأجنبي قانوناً أم مجرد واقعة؟ أم أن له اتجاه آخر في هذا المجال؟
الحقيقة أن المشرع الجزائري لم يتكلم صراحة على مسألة طبيعة القانون الأجنبي و أساس تطبيقه،غير أنه أورد نصاً خاصاً في المادة 358 من قانون الإجراءات المدنية و الإدارية،يمكن أن نطلع من خلالها على موقفه،فهذه المادة تحدد أوجه الطعن بالنقض،و من بين هذه الأوجه ما جاء في الفقرة6 و هو "مخالفة القانون الأجنبي المتعلق بقانون الأسرة"،و يعني ذلك أن تطبيق قضاة الموضوع لقانون أجنبي خاص بقانون الأسرة يخضع لرقابة المحكمة العليا،و يعني ذلك أيضاً أن يعمد القضاة لتطبيقه تلقائياً و عليهم البحث عن موضوعه،و هذا كله يؤدي إلى نتيجة هامة و هي أن المشرع الجزائري قد جعل القانون الأجنبي المتعلق بقانون الأسرة في مستوى القانون الوطني،و بالتالي يكون قد عامله معاملة القانون،كما أن ذلك يعني بمفهوم المخالفة أن ما يخرج من القوانين الأجنبية عن مجال الأحوال الشخصية هو عبارة عن واقعة باعتبار أن ما يقابل القانون هو الواقع.
الفرع الثاني: مركز القانون الأجنبي أمام القضاء الوطني.
إذا كان يفترض في القاضي علمه بقانونه الوطني و كان ملزماً بتطبيقه على النزاع فإن الأمر يختلف في مجال القوانين الأجنبية،فهو قانون يبقى أجنبياً على القاضي الوطني و قد يجهله تماماً فيطرح التساؤل عندها: هل القاضي الوطني ملزم بتطبيق القانون الأجنبي تلقائياً أم عليه انتظار طلب الخصوم؟ و هل يلتزم بالبحث عن مضمونه أم أنه يتعين على الخصوم إثباته؟و هل القاضي الوطني ملزم بتطبيق القانون الأجنبي بشكل سليم و إلا كان حكمه عرضة للطعن بالنقض؟
أولاً:مدى القوة الملزمة لقاعدة الإسناد أمام القضاء الوطني.
في الدول التي تعامل القانون الأجنبي كقانون، القاضي الوطني ملزم بتطبيق قاعدة الإسناد و بالتالي القانون الأجنبي من تلقاء نفسه و لو لم يطالب بذلك الخصوم،أما في الدول التي تعامله كواقعة فالأصل ألا يتم تطبيق القانون الأجنبي إلا بطلب من الخصوم،و هذا يعني أنه في ظل القانون الجزائري فإن القاضي ملزم بتطبيق فقط القوانين الأجنبية المتعلقة بمسائل الأحوال الشخصية،أما بقية القوانين الأخرى غير المتعلقة بهذه المسائل فالقاضي الجزائري غير ملزم بتطبيقها إلا إذا طالب بذلك الخصوم.
ثانياً: البحث عن مضمون القانون الأجنبي.
هنا أيضاً الأمر متوقف على طبيعة القانون الأجنبي،ففي الدول التي تعامله كواقعة تحديد مضمون القانون الأجنبي يأخذ معنى الإثبات تماماً كما هو الشأن بالنسبة للوقائع،و عليه فالأصل أن يتم الإثبات من طرف الخصوم و بالضبط من الطرف الذي يتمسك بتطبيقه،و له كأصل عام الاستعانة بجميع طرق الإثبات،و عليه فيكون إثبات مضمون قانون أجنبي عن طريق تقديم المؤلفات الفقهية الأجنبية أو عن طريق تقديم نصوص القانون الأجنبي بعد ترجمتها،و لقد درج القضاء الفرنسي على استعمال وسيلة تسمى "الشهادة العرفية"، و هي شهادة يحرّرها أشخاص مختصون في القانون الأجنبي و على علمٍ كافي بأحكامه تسلم إلى الخصم الذي يتمسك بتطبيق هذا القانون،على أنه إذا كان الأصل في البحث عن القانون الأجنبي هو استعمال جميع وسائل الإثبات فإنه استثناءاً لا يجوز إثبات مضمون هذا القانون عن طريق اليمين و الإقرار،إذ أن هاتين الوسيلتين تعتمد من أجل إثبات وقائع خاصة بطرفي النزاع يصعب إثباتها ببقية الوسائل الأخرى،بينما القانون الأجنبي و إن اعتبر واقعة لأسباب عملية فإنه يبقى واقعة عامة يمكن التعرف عليه من طرف كل شخص و إن استلزم ذلك بذل مجهود في البحث عنه،و تجدر الإشارة إلى أنه و إن كان المقرّر أن عبئ إثبات مضمون القانون الأجنبي يبقى ملقى على عاتق الخصم فإنه ليس هناك ما يمنع القاضي أن يبحث هو أيضاً عن مضمونه بوسائله الخاصة،كما أنه بإمكانه استعماله لمعلوماته الشخصية متى كان عالماً بأحكام القانون الأجنبي،هذا ما عليه الحال في الدول التي تعامل القانون الأجنبي معاملة الوقائع أما تلك التي تعامله كقانون فالأمور تنعكس، فالقاضي هو الذي يقع عليه عبئ البحث عن مضمون هذا القانون و له عدة وسائل في هذا المجال،فله أن يستعين بحكومته و بالضبط وزارة العدل طالباً منها تزويده بنصوص القانون الأجنبي،كما للقاضي اللجوء إلى السلطات الأجنبية المختصة للدولة التي هو بصدد تطبيق قانونها،غير أنه قد يحدث أن يبذل القاضي كل المساعي الضرورية و اللازمة للتعرف على مضمون القانون الأجنبي و مع ذلك يتعذر عليه الوصول إلى ذلك في هذه الحالة فقط يمكن للقاضي اللجوء إلى الخصوم ليطلب منهم تقديم العون له للكشف عن مضمون هذا القانون،غير أن ذلك لا يعني إلقاء عبئ الإثبات على الأطراف لأن المبدأ يبقى دائماً هو التزام القاضي بالبحث عن مضمون القانون الأجنبي،فهذا الأخير يقع عليه التزام قانوني بالبحث عن مضمون القانون الأجنبي بينما يقع على الخصوم واجب معنوي يتمثل في مساعدة القاضي في هذا البحث.
ما هو موقف المشرع الجزائري من مسألة البحث عن مضمون القانون الأجنبي؟
سبقت الإشارة إلى أن المشرع الجزائري يضع القانون الأجنبي المتعلق بالأحوال الشخصية في مرتبة القانون أما في المسائل الأخرى يبقى مجرد واقعة و يعامل كذلك،و يترتب على ذلك أنه متى رُفع نزاع أمام القاضي الجزائري يتعلق بمسائل الأحوال الشخصية و أُعطي الاختصاص لقانون أجنبي كان القاضي ملزماً بالبحث عن مضمون هذا القانون،و يُمنع عليه أن يلقي عبئ الإثبات على الخصوم،أما إذا تعلق الأمر بتطبيق قانون أجنبي لا يخص مسائل الأحوال الشخصية فإن القاضي الجزائري غير ملزم في هذه الحالة بالبحث عن مضمون القانون الأجنبي بل على الخصوم إثباته و إن كان ليس هناك ما يمنع القاضي من أن يطبقه متى كان عالماً بأحكامه.
و قد يحدث سواء تعلق الأمر بقانون أجنبي خاص بالأحوال الشخصية أو غيرها من الوسائل الأخرى ألا يتم التوصل إلى مضمون هذا القانون في مثل هذه الأحوال،و حتى لا يبق النزاع دون قانون يحكمه قرر المشرع الجزائري في المادة 23 مكرر تطبيق القانون الوطني (القانون الجزائري).
ثالثاً:رقابة المحكمة العليا على تطبيق القانون الأجنبي.
في ظل قوانين و قضاء الدول التي تعامل القانون الأجنبي كقانون المسألة لا تثير إشكالاً،إذ سيخضع تطبيق القوانين الأجنبية لرقابة المحكمة العليا تماماً كما هو الشأن بالنسبة لتطبيق القوانين الوطنية،و عليه فإذا أخطأ قضاة الموضوع في تطبيقهم لقانون أجنبي كان حكمهم عرضة للطعن بالنقض،أما في الدول التي تعامل القانون الأجنبي كواقعة و بالضبط في ظل القضاء الفرنسي فإن هذا الأخير مستقر منذ عهد طويل على عدم مراقبة تطبيق القوانين الأجنبية،إذ ترفض محكمة النقض الفرنسية بسط رقابتها على تطبيق القوانين الأجنبية معتبرة أنها مسألة تخضع لتقدير قضاة الموضوع،و هذا يعني أن تطبيق القانون الأجنبي بشكل قاطع لا يفتح طريقاً للطعن بالنقض،غير أن القضاء الفرنسي أدخل استثناءاً على المبدأ حيث وضع ما يسمى برقابة "التشويه" أو "المسخ" و مفاده إمكانية نقض الأحكام التي تذهب إلى حد مسخ و تشويه المعنى الواضح و المحدد لقانون أجنبي،و يقصد بالتشويه إعطاء القانون الأجنبي الواجب التطبيق معنى مختلفاً عن المعنى المستفاد من نصه الواضح،و لقد اشترط القضاء الفرنسي شرطين أساسيين لإجراء هذا النوع من الرقابة:
الشرط الأول: أن تكون القاعدة الأجنبية عبارة عن نص قانوني؛
الشرط الثاني: أن يكون محتوى القاعدة الأجنبية المكتوبة واضحاً و محدداً.
ما موقف المشرع الجزائري من مسألة الرقابة على تطبيق القوانين الأجنبية؟
موقفه يبدو واضحاً من خلال المادة 358 ف6 من قانون الإجراءات المدنية و الإدارية،فحسب هذه المادة المحكمة العليا الجزائرية لا تراقب و لا تقبل الطعون بالنقض إلا إذا تعلق الأمر بمخالفة القانون الأجنبي المتعلق بقانون الأسرة،أما باقي القوانين الأخرى الأجنبية فتخضع في تطبيقها لمطلق تقدير قضاة الموضوع دون رقابة عليهم من قبل المحكمة العليا.
المطلب الثاني : موانع تطبيق القانون الأجنبي.
إعمالاً لقاعدة الإسناد قد يعطي الاختصاص لقانون أجنبي و يكون بالتالي واجب التطبيق و مع ذلك قد تتوفر بعض الحالات تؤدي بالقاضي الوطني إلى استبعاد هذا القانون،فمن جهة قد تكون أحكام القانون الأجنبي مخالفة للمبادئ السائدة في دولة القاضي فيتم هنا استبعاد هذا القانون و يمنع على القاضي الوطني تطبيقه، و هذا ما يسمى بالدفع بالنظام العام كوسيلة لاستبعاد القانون الأجنبي، و من جهة أخرى قد يتضح للقاضي أن القانون الواجب التطبيق لم يكن مختصاً في الحقيقة إلا نتيجة تحايل من قبل الأطراف و ذلك من خلال تحايلهم على ضابط الإسناد،فيمتنع القاضي عن تطبيق هذا القانون، و هذا ما يسمى بالدفع بالغش نحو القانون كوسيلة لاستبعاد القانون الأجنبي:
الفرع الأول: الدفع بالنظام العام.
أشرنا من قبل أن القاضي الوطني لا يفترض علمه بالقانون الأجنبي بل قد يجهل تماماً أحكامه و مع ذلك فقد ينتهي إلى تطبيقه متى تعرف على مضمونه سواء بوسائله الخاصة أو تم إثباته من قبل الخصوم،و هذا يعني أنه سيطبق قانوناً هو غريب في الأصل عن نظامه القانوني،و من بين المخاطر التي قد تنجم عن ذلك هو إمكانية اصطدام القانون الأجنبي بالمبادئ الأساسية في دولة القاضي،فيأتي هنا النظام العام ليلعب دوره كصمام أمان من أجل حماية هذه المبادئ و الأسس،و تأخذ معظم التشريعات بفكرة النظام العام لاستبعاد القوانين الأجنبية، و هو ما فعله المشرع الجزائري حيث تقضي المادة 24 من القانون المدني بأنه "لا يجوز تطبيق القانون الأجنبي بموجب النصوص السابقة إذا كان مخالفاً للنظام العام و الآداب العامة في الجزائر، أو ثبت له الاختصاص بموجب الغش نحو القانون".
أولاً:المقصود بالنظام العام.
بغض النظر عن الاختلافات الفقهية في هذا المجال يمكن تعريف النظام العام بأنه مجموع المبادئ الأساسية السائدة في دولة ما سواء كانت هذه المبادئ سياسية،اجتماعية،خلقية،دينية و اقتصادية، و أهم ما يميز النظام العام هو أنه فكرة نسبية،فمفهوم النظام العام يختلف من دولة لأخرى،و هذا يؤدي إلى نتيجة حتمية هو عدم وجود نظام عام دولي كأصل عام،غير أن ذلك لا يعني عدم اتفاق الدول على مبادئ أساسية و تسمى في فرنسا بمبادئ العدالة العالمية،و إن كانت نادرة جداً و مثالها مكافحة الرق،منع الاتجار بالمخدرات و محاربة القرصنة،إذ أن الاتفاق على هذه الأمور لا يهدف إلى حماية مصلحة دولة واحدة فقط،بل يحمي الإنسانية جمعاء،و لا يقتصر اختلاف النظام العام من دولة لأخرى،و إنما يختلف في الدولة الواحدة من زمان لآخر،ففي فرنسا كان الطلاق ممنوعاً و مخالفاً للنظام العام إلى غاية 1884 ليتغير الوضع بعد هذا التاريخ،فيتم إجازة الطلاق و يتحول إلى أمر غير مخالف للنظام العام،و تجدر الإشارة إلى أنه إذا كان دور النظام العام في إطار القانون الداخلي هو إبطال كل تصرف يتعارض مع هذا النظام،فإن دوره في القانون الدولي الخاص هو استبعاد القانون الأجنبي المختص.
ثانياً:شروط التمسك بالدفع بالنظام العام.
يشترط من أجل إمكانية التمسك باستبعاد القانون الأجنبي لتعارضه مع النظام العام شرطان أساسيان:
الشرط الأول: أن يكون القانون الأجنبي واجب التطبيق طبقاً لقواعد الإسناد الأجنبية،و عليه لا يمكن إثارة هذا الدفع متى كان بالإمكان استعمال وسيلة أخرى لاستبعاد القانون الأجنبي المختص، و مثال ذلك استبعاد القاضي الوطني للقانون الأجنبي الذي اتفق عليه الأطراف في العقد لانعدام أي صلة بين هذا القانون و العقد أو المتعاقدين؛
الشرط الثاني: في وجوب أن يكون هناك تعارض فعلي بين القانون الأجنبي المختص و المبادئ الأساسية السائدة في دولة القاضي الوطني،و نظراً لنسبية النظام العام فإنه يرجع إلى هذا القاضي سلطة تقدير مدى تعارض الأحكام الموضوعية للقانون الأجنبي مع النظام العام لدولته،غير أنه يخضع في ذلك لرقابة المحكمة العليا،فقد يستبعد قضاة الموضوع قانوناً أجنبياً بحجة تعارضه مع النظام العام غير أن المحكمة العليا تقوم بنقض هذا الحكم على أساس أنها لا ترى في الحقيقة و بخلاف ما ذهب إليه هؤلاء القضاة أي تعارض بين القانون الأجنبي و المبادئ الأساسية القائمة في الدولة،فلقد قضت محكمة النقض الفرنسية على سبيل المثال بنقض حكم قضاة الموضوع الذي استبعد القانون الألماني رغم كونه مختصاً باعتباره قانون مكان وقوع الفعل الضار بحجة أنه قانون لا تعرف أحكامه التعويض عن الضرر المعنوي،و هذا في رأي قضاة الموضوع مخالف للنظام العام الفرنسي،و هو رأي لم تؤيده محكمة النقض الفرنسية التي رأت أن عدم التعويض عن الضرر المعنوي لا يشكل بأي حال مخالفة و مساساً بالمبادئ الأساسية للقانون الفرنسي.
ثالثاً: آثار التمسك بالنظام العام.
هذه الآثار تظهر في مرحلتين: مرحلة إنشاء الحق و فيها نتكلم عن آثر عام للنظام العام،و مرحلة نفاذ الحق و فيها تظهر فكرة الأثر المخفف للنظام العام:
أ-أثر التمسك بالنظام العام في مرحلة إنشاء الحق.
أهم أثر هو استبعاد القانون الأجنبي المختص،و هذا ما يسمى بالأثر السلبي للنظام العام،غير أن استبعاد هذا القانون يعني بالضرورة وجوب البحث عن قانون آخر يحل محل القانون الأجنبي المستبعد و يطبق بدله،حتى لا تبقَ العلاقة دون قانون يحكمها و هذا هو الأثر الإيجابي للنظام العام،إذاً فالتمسك بالنظام العام ينتج في نفس الوقت أثرين:
أثر سلبي: و يتمثل في استبعاد القانون الأجنبي المختص؛
أثر إيجابي: و هو وجوب البحث عن قانون يحلّ محلَّ القانون المستبعد؛
و يطرح التساؤل هنا: ما هو هذا القانون؟
يذهب غالبية الفقه إلى القول بتطبيق قانون القاضي،و هو موقف يأخذ به قضاء العديد من الدول كالقضاء الفرنسي و المصري،غير أنه قد يحدث ألا يتعارض القانون الأجنبي كله مع النظام العام و هذا ما يعرف بالتعارض الجزئي،فهل نقوم رغم ذلك بإحلال قانون القاضي محل القانون الأجنبي المستبعد بصفة كلية أم أننا نطبق قانون القاضي فقط في الجزئية التي تتعارض مع النظام العام؟و تبقى المسائل الأخرى التي لا تمس هذا الأخير خاضعة للقانون الأجنبي؟ فيتم بالتالي الفصل في النزاع وفق قانونين:قانون القاضي و القانون الأجنبي:
و لتوضيح ذلك نضرب المثال التالي المستوحى من اجتهادات القضاء الفرنسي: "توفي شخص مسلم في فرنسا مخلِّفاً وراءه تركة و ورثة مباشرين،أثناء افتتاح التركة و تقسيمها تم حرمان أحد الورثة من الميراث بحجة أنه غير مسلم تطبيقاً لأحكام الشريعة الإسلامية ،و رُفع النزاع أمام القضاء الفرنسي حيث اعتبر هذا الأخير حرمان الوارث من حقه في الميراث بسبب اختلاف الدين هو مخالف للنظام العام في فرنسا،و بالتالي وجب استبعاد أحكام الشريعة الإسلامية و تطبيق أحكام القانون الفرنسي"،غير أنه طرح التساؤل هنا حول نطاق تطبيق هذا القانون هل يطبقه فقط بخصوص الجزئية المتعلقة بالميراث فيقرر له الميراث،و يقف دور القانون الفرنسي فقط عند هذا الحد؟أمَّا الأنصبة الواجبة في الميراث فتخضع لأحكام الشريعة الإسلامية؟أم أننا نستبعد أحكام الشريعة و نطبق القانون الفرنسي بصفة كلية على النزاع؟ أي على مسألة استحقاق الميراث و تحديد الأنصبة.
و يبدو أن القضاء الفرنسي يميل إلى إمكانية التطبيق الجزئي للقانون الفرنسي في حالة تعارض أحكام القانون الأجنبي جزئياً مع النظام العام في فرنسا،فلقد قضت محكمة النقض سنة 1964 بأن الشريعة الإسلامية في مجال الميراث لا تصطدم بالنظام العام الفرنسي إلا في المسألة التي تمنع فيها غير المسلمين من الميراث،و عليه وجب استبعاد أحكام هذه الشريعة بخصوص هذه المسألة و إعطاء الوارث الحق في الميراث تطبيقاً للقانون الفرنسي،أما فيما يخص تحديد نصيب كل وارث فهذه المسألة تبقى خاضعة دائماً لأحكام الشريعة الإسلامية كونها لا تتنافى مع النظام العام بفرنسا،و لقد انتقد بعض الفقهاء مثل هذا الحل إذ أن الأخذ ببعض أحكام القانون الأجنبي و تكملتها بالقانون الوطني يعني إخضاع العلاقة لقانونين مختلفين من حيث الأحكام و من حيث المصدر،مما يؤدي إلى عدم التجانس في الحل المعتمد.
و إذا رجعنا إلى القانون الجزائري فسنجد أن المشرع قرّر صراحة في المادة 24 قانون مدني وجوب استبعاد القانون الأجنبي عند تعارضه مع النظام العام في الجزائر،كما قرر صراحة في الفقرة 2 من ذات المادة تطبيق القانون الجزائري محل القانون الأجنبي المستبعد،و بالمقابل لم يتم التعرض لمسألة التعارض الجزئي و إن كان يبدو من ظاهر نص المادة 24 أن استبعاد القانون الأجنبي يجب أن يكون كلياً ليحل محله بالمقابل القانون الجزائري أيضاً بصفة كلية، و هذا ما يفهم من عبارة "لا يجوز تطبيق القانون الأجنبي".
ب-أثر التمسك بالنظام العام في مرحلة نفاذ الحق (الأثر المخفف).
الفرض في هذه الحالة أن الحق نشأ صحيحاً في دولة ما غير أن آثار هذا الحق مخالفة للنظام العام في دولة أخرى،المثال الأكثر وضوحاً في هذه الحالة هو الشخص الذي يتزوج في الجزائر بأكثر من زوجة ثم ينتقل إلى فرنسا و تطالب الزوجة الثانية هناك بحقها في النفقة تطبيقاً للقانون الجزائري،من المؤكد هنا هو أن ذلك الجزائري لو أقدم على الزواج بزوجة ثانية في فرنسا لاعتبر ذلك مخالفاً للنظام العام و سيقابل طلبه بالرفض رغم أن قانونه الشخصي يسمح بذلك،لكن هل سيتم استبعاد القانون الجزائري كذلك عندما يتعلق الأمر بطلب الاعتراف بحقوق الزوجة الثانية؟ يتفق غالبية الفقه في فرنسا على إمكانية الاعتراف بحقوق نشأت في الخارج رغم كونها مخالفة للنظام العام في فرنسا و هذا ما يسمى بالأثر المخفف للنظام العام،و يجد هذا الموقف أساسه في فكرة الحقوق المكتسبة فطالما أن الحق نشأ صحيحاً في ظل قانون معين،وجب احترام هذا الحق و ما يرتبه من آثار أينما كان مكان تواجده،و لقد أيدت محكمة النقض الفرنسية وجهة النظر هذه إذ قضت في أحد قراراتها أن "أثر تدخل النظام العام يختلف بحسب ما إذا كان الأمر يتعلق بإنشاء أو اكتساب حق بفرنسا، أو فقط سريان حقوق اكتسبت بدون غشٍ في الخارج و كانت صحيحة في ظل القانون الذي نشأت تحت سلطانه"،و تماشياً مع هذا الموقف حكمت محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 28 جانفي 1958 بأن "الزوجة الثانية تعتبر زوجة شرعية و لها انطلاقاً من هذه الصفة الحق بالمطالبة بكامل حقوقها و من بينها حقها في النفقة"،على أن الملاحظ أنه إذا كان القضاء الفرنسي قد أخذ بمبدأ الأثر المخفف فلم يستبعد تطبيق القوانين الأجنبية عند الاعتراف بحقوق نشأت بالخارج، فإنه بالمقابل لم يطبق هذا المبدأ على إطلاقه إذ اشترط ألاَّ تكون آثار هذا الحق متعارضة تعارضاً تاماً مع المبادئ الأساسية المتفق عليها عالمياً،و انطلاقاً من ذلك رفض الاعتراف في فرنسا بآثار التأميم بخصوص الشركات الفرنسية بالجزائر بحجة أن التأميم و نزع الملكية دون تعويض عادل محدد و مسبق منافي لأحد المبادئ الأساسية، و هي وجوب احترام الملكية الخاصة.
ما الحكم في القانون الجزائري؟هل يمكن التكلم عن أثر مخفف، و بالتالي الاعتراف في الجزائر بأثر حقٍ مخالف للنظام العام؟
يبدو أن المحكمة العليا الجزائرية ترفض فكرة الأثر المخفف على الأقل عندما يتعلق الأمر بمخالفة القانون الأجنبي لنصوص قطعية تجد مصدرها في الشريعة الإسلامية،حيث نقضت بتاريخ 23 جوان 1984 حكم قضاة الموضوع الذي منح الصيغة التنفيذية لحكم صادر عن القضاء الفرنسي، معتبرةً أن هذا الحكم الذي أقرّ تطبيقاً للقانون الفرنسي القرض بالفائدة بين الأفراد يعتبر مخالفاً للنظام العام في الجزائر،و عليه يبدو أنه في ظل اجتهاد القضاء الجزائري تدخل النظام العام يكون بقوة سواء في مرحلة إنشاء الحق أو عند الاعتراف بآثاره عندما يتعلق الأمر بمخالفة أحكام قطعية مستمدة من الشريعة الإسلامية،كما هو الحال بالنسبة للأحوال الشخصية.
الفرع الثاني: الغش نحو القانون.
رأينا فيما سبق أن القانون الأجنبي قد يكون واجب التطبيق و رغم ذلك يتم استبعاده متى كانت أحكام هذا القانون مخالفة للنظام العام في دولة القاضي،غير أن هذه الوسيلة لا تعتبر الوحيدة لاستبعاد تطبيق القانون الأجنبي المختص، إذ قد يحدث أن يقوم القاضي الوطني باستبعاد القانون الأجنبي متى ثبت له أن هذا الأخير لم يختص إلا نتيجة تحايل من قبل الأفراد، و هذا ما يسمى بالغش نحو القانون:
أولاً:المقصود بالغش نحو القانون.
يقصد بالغش نحو القانون التحايل على ضابط الإسناد بقصد التهرب من أحكام القانون الواجب التطبيق،فمثلاً في الوقت الذي كان فيه القانون الإسباني يمنع الطلاق،قام اسباني بتغيير جنسيته و الحصول على جنسية فرنسية فقط ليخضع لأحكام هذا القانون و يحصل على الطلاق،و لاشك أنه يعتبر بمثابة تحايل و غش نحو القانون الإسباني و هو القانون الذي كان واجب التطبيق أصلاً لو أن الشخص لم يقم بتغيير جنسيته،و ترجع تطبيقات فكرة الغش نحو القانون إلى القضاء الفرنسي في قضية شهيرة تعرف بقضية الأميرة (De,Bauferment) التي فصلت فيها محكمة النقض الفرنسية في 1887 ،كما أخذ المشرع الجزائري أيضاً بفكرة الغش نحو القانون، حيث قضى في المادة 24 قانون مدني بعدم جواز تطبيق القانون الأجنبي إذا ثبت له الاختصاص نتيجة غشٍ نحو القانون.
ثانياً: شروط الدفع بالغش نحو القانون.
يشترط للدفع بالغش نحو القانون شرطان أساسيان: الأول مادي و الثاني معنوي:
الشرط المادي.
حتى نكون أمام غش نحو القانون وجب أن يكون هناك تغيير إرادي لضابط الإسناد،و لا يقصد هنا تغيير ضابط الإسناد أن يقوم الشخص بتغيير قاعدة الإسناد في حد ذاتها فيغير ضابط الإسناد الذي تتضمنه،فهذه مسألة لا يختص بها سوى المشرع وحده،فمتى قضى هذا الأخير بإخضاع الأحوال الشخصية مثلاً لقانون الجنسية توجب على الجميع احترام هذه القاعدة،و إنما المقصود بتغيير ضابط الإسناد هو أن يقوم الشخص إرادياً بالتحايل على هذا الضابط،كأن يقوم بتغيير جنسيته فهنا ضابط الإسناد و هو الجنسية يبقى دائماً قائماً لا يتغير،بل ما تغير هو الجنسية في حد ذاتها، كأن يكون الشخص إسبانياً فيتحول إلى جنسية فرنسية فقط ليحصل على الطلاق.
و لما كان من الضروري حتى نكون أمام غشٍ نحو القانون أن يكون هناك تحايل و تغيير على مستوى ضابط الإسناد،فهذا يعني أن الغش لا يمكن تصوره في ضوابط إسناد تحكم مسائل ثابتة لا تتغير،و عليه فإذا كان من الممكن التكلم عن غش نحو القانون في مجال الأحوال الشخصية كون هذه الأخيرة تحكمها الجنسية أو الموطن و من السهل على كل شخص أن يغير جنسيته،و أسهل من ذلك تغيير موطنه، و كذلك في مجال المنقولات و ذلك بتغيير موقع المنقول، فإنه بالمقابل لا يمكن تصور وجود غش نحو القانون بخصوص العقارات فهذه تخضع لقانون موقعها و لا يتصور إطلاقاً تغيير موقع العقار، و أيضاً لا يمكن تصور غش نحو القانون في مجال المسؤولية التقصيرية كون هذه الأخيرة تخضع لقانون مكان موقعها و متى وقع فعل ضار في مكان معين استحال تغيير هذا المكان.
الشرط المعنوي.
لا يكفي تغيير ضابط الإسناد بل يجب أن يكون هذا التغيير بسوء نية، و يظهر سوء النية هذا في تغيير ضابط الإسناد بغية التهرب من أحكام القانون الواجب التطبيق أصلاً.
و لقد انتقد البعض مثل هذا الشرط على اعتبار أن النية مسألة باطنية تدخل في خفايا النفس البشرية و محاولة البحث عنها قد يفسح المجال لأهواء القضاة و استبدادهم، غير أن الكثير عارضوا مثل هذا الانتقاد معتبرين أن النية و إن كانت باطنية و خفية فإنه مع ذلك يمكن الوقوف عليها من خلال الظروف و الملابسات المحيطة.
ثم إن صعوبة الوقوف على النية الباطنة لا تتعلق فقط بموضوع تنازع القوانين بل تطرح كذلك في جل فروع القانون،ففي القانون الجنائي مثلاً للنية دور كبير جداً في التفرقة بين الفعل العمدي و الخطأ.
ثالثاً:نطاق الدفع بالغش نحو القانون.
هل يشترط للدفع بالغش نحو القانون أن يقوم الشخص بالتحايل على ضابط الإسناد من أجل التهرب من أحكام قانون القاضي أم يمكن إثارة هذا الدفع و لو وقع غش تجاه قانون أجنبي؟فمثلاً لو رفع النزاع أمام القضاء الفرنسي فهل يشترط لإثارة الدفع بالغش نحو القانون أن يكون التحايل قد تم من أجل التهرب من أحكام القانون الفرنسي؟أم يكفي أن يكون هناك تحايل و لو تم تجاه قانون أجني؟ لقد استقر القضاء الفرنسي حتى وقت قريب على وجوب أن يكون التحايل تجاه القانون الفرنسي فقط حتى يقبل الدفع بالغش نحو القانون،أما إذا ثبت أن الغش تم من أجل التهرب من قانون أجنبي فلا مجال هنا للتمسك بهذا الدفع،فقد قضت محكمة النقض الفرنسية في حكم لها صادر في 1929 برفضها التمسك بالغش نحو القانون رغم توافر شروطه اتجاه إيطالية تجنست بالجنسية الفرنسية حتى تتمكن من الطلاق في ظل القانون الفرنسي، باعتبار أن القانون الإيطالي كان يمنعها من ذلك، و لقد انتقد الفقه مثل هذا الموقف و رأى وجوب إعمال الغش نحو القانون سواء كان التحايل بقصد التهرب من قانون وطني أو القانون الأجنبي،و حجتهم في ذلك اعتبارات خلقية جوهرها وجوب محاربة الغش أياً كانت صورته،و يبدو أن القضاء الفرنسي بدأ يتراجع عن موقفه و إن لم يعلن عن ذلك صراحة، إذ قضى في حكم له صادر سنة 1964 (محكمة النقض) أنه من بين شروط تنفيذ الحكم الأجنبي في فرنسا غياب أي غش نحو القانون، حيث جاءت عبارة القانون واسعة تشمل القانون الفرنسي و الأجنبي ،و هذا ما يجب أن يكون عليه الأمر في القانون الجزائري، إذ المادة 24 قانون مدني تتكلم عن الغش نحو القانون دون أن تحصره في القانون الوطني ،و هو ما يعني إمكانية التمسك بهذا الدفع سواء حدث الغش اتجاه القانون الجزائري أو القانون الأجنبي.
رابعاً: أساس الغش نحو القانون.
اختلف الفقهاء حول إعطاء أساس سليم لنظرية الغش نحو القانون،البعض اعتبر هذه النظرية مجرد تطبيقات للدفع بالنظام العام،فالتحايل على ضابط الإسناد من أجل التهرب من أحكام القاضي و تطبيق القانون الأجنبي يجعل من هذا الأخير قانوناً مخالفاً للنظام العام في دولة القاضي،و بالتالي وجب استبعاده على هذا الأساس،غير أنه اعترض على هذا الموقف بالقول أن هناك اختلافات جوهرية بين الدفع بالنظام العام و الدفع بالغش نحو القانون،أهمها أنه في حالة الدفع بالنظام العام يتم استبعاد القانون الأجنبي لتعارضه مع الأسس الجوهرية في دولة القاضي،أمَّا في الدفع بالغش نحو القانون فاستبعاد القانون الأجنبي يكون بسبب وجود تحايل على ضوابط الإسناد للإفلات من أحكام القانون الذي كان واجب التطبيق أصلاً،البعض الآخر أصَّل هذه النظرية على القاعدة الرومانية الشهيرة "الغش يفسد كل تصرف"،بينما رأى جانب آخر أن الأساس السليم للدفع بالغش نحو القانون يكمن في نظرية "التعسف في استعمال الحق" المعروفة في القانون المدني،فلكل شخص الحق في تغيير جنسيته أو موطنه أو موقع المال المنقول،غير أنه إذا استعمل هذا الحق فقط للتهرب من أحكام قانونية معينة فلا شك أنه يكون قد تعسف في استعمال حقه،و رغم أن هذا الموقف ليس في منأى عن الانتقادات أهمها أنه في مجال التعسف في استعمال الحق الضرر يلحق مصلحة شخصية ينما في الغش نحو القانون الضرر يصيب مصلحة عامة،فإنه مع ذلك يبقى موقفاً يلقى التأييد من قبل غالبية الفقه الفرنسي.
خامساً:أثر التمسك بالغش نحو القانون.
في إطار القانون المدني و بالضبط في مجال التصرفات القانونية الدفع بالغش يؤدي إلى بطلان التصرف برمته،و يعتبر كأن لم يكن غير أن هذه النتيجة يصعب تصورها عندما يتعلق الأمر بالغش في نطاق القانون الدولي الخاص،فمن غير المتصور إطلاقاً أن يقضي القاضي الجزائري مثلاً ببطلان تجنس جزائري بالجنسية الفرنسية إذ هذه المسألة لا تختص بها سوى السلطات الفرنسية وحدها،و عليه في مجال الغش نحو القانون لا نتكلم عن بطلان التصرف كجزاء و إنما الجزاء هو عدم نفاذ التصرف،غير أن الملاحظ في كل غش نحو القانون أن هناك عنصران: وسيلة يستعملها الشخص،و غاية أو نتيجة يهدف الوصول إليها،فالاسبانية التي تحصل على الجنسية الفرنسية فقط ليحكم لها بالطلاق يكون تصرفها قد انطوى على عنصرين: عنصر الوسيلة و هو تغيير الجنسية،و عنصر النتيجة و هو الحصول على الطلاق،و يطرح التساؤل هنا هل عدم نفاذ التصرف يشمل النتيجة و الوسيلة أم يقتصر فقط على النتيجة؟ ففي مثالنا السابق لو رفع الزوج دعوى أمام القضاء الاسباني محتجاً بوجود غش نحو القانون الاسباني،فهل سيذهب القضاة إلى عدم الاعتراف بآثار الجنسية الجديدة للزوجة و اعتبارها دائماً اسبانية في نظرهم لا فرنسية؟مع كل ما يرتبه ذلك من آثار،و هذه هي الوسيلة؛و أيضاً عدم الاعتراف بآثار الطلاق الذي حدث في فرنسا؟ و هذه هي النتيجة؛و بالتالي تعتبر دائماً متزوجة،أم أن القضاة سيقتصرون على الحكم بعدم نفاذ التصرف على مستوى النتيجة فقط،فيعترفون بجنسيتها الجديدة غير أنهم لا يعترفون بأثر الطلاق في اسبانيا؟
محكمة النقض الفرنسية بيَّنت موقفها بوضوح في قضية الأميرة حيث قضت بعدم اعتبار الطلاق صحيحاً و اعتبرت الزوجة دائماً فرنسية،و هذا يعني أن أثر الغش حسب القضاء الفرنسي يمتد ليشمل عدم نفاذ التصرف على مستوى النتيجة و الوسيلة أيضاً.
الفصل الثاني: الحالات التطبيقية لتنازع القوانين.
يمكن تأصيل قواعد الإسناد إلى ثلاث طوائف: طائفة الأحوال الشخصية،طائفة الأحوال العينية و يندرج ضمنها التصرفات القانونية و الوقائع القانونية،و ثالث طائفة هي نظام الأموال.
المبحث الأول: الأحوال الشخصية.
إن اختلاف الأنظمة القانونية عبر العالم يلقي بظله في مجال تحديد المواضيع التي تدخل ضمن طائفة الأحوال الشخصية،إذ ما قد تعتبره دولة ما موضوعاً من مواضيع الأحوال الشخصية قد لا يعتبر كذاك في دولة أخرى،فمثلاً الميراث في الجزائر و في أغلب الدول العربية يعتبر من مسائل الأحوال الشخصية بينما هو يندرج في فرنسا في نظام الأموال،و عليه فمتى طرحت أمام القضاء الجزائري مسألة تحديد ما يدخل ضمن نطاق الأحوال الشخصية و ما يخرج عنها وجب عليه الرجوع إلى قانونه الداخلي،إذ تعتبر هذه مسألة تكييف تخضع لقانون القاضي و لقد اصطلح على تسمية القانون الذي يحكم الأحوال الشخصية بالقانون الشخصي،على أن الأنظمة تختلف في تحديد ضابط الإسناد الذي يحكم هذا القانون،هل هو قانون جنسية الشخص أو قانون موطنه؟و عليه فسنحاول أولاً تحديد ضابط الإسناد الذي يحكم القانون الشخصي،ثم تحديد نطاق هذا القانون.
المطلب الأول: تحديد ضابط الإسناد الذي يحكم مسائل الأحوال الشخصية.
لا تتفق القوانين و التطبيقات القضائية على ضابط إسناد واحد فهناك اتجاه يخضع الأحوال الشخصية لقانون الجنسية و يسمى أيضاً بالقانون الوطني،و هناك اتجاه آخر يخضعها لقانون الموطن.
الفرع الأول: إخضاع الأحوال الشخصية لقانون الجنسية.
يعتمد الفقهاء المؤيدون لهذا الاتجاه على عدة حجج أهمها:
-إن الأخذ بقانون الجنسية يحقق نوعاً من الثبات و الاستقرار على اعتبار أن الجنسية يصعب تغييرها بخلاف الموطن؛
-إن إخضاع الأشخاص لقانون جنسيتهم أينما وجدوا يولد شعوراً لهؤلاء بانتمائهم المستمر لدولتهم حتى لو كانوا بعيدين عنها؛
-إن الأخذ بضابط الجنسية و بالتالي تطبيق القانون الوطني الخاص بالأحوال الشخصية حتى خارج حدوده فيه تكريس لسلطة هذا القانون،و هذا بخلاف لو أخذنا بقانون الموطن،و في هذا يتساءل أحد الفقهاء الفرنسيين (beautiful) قائلاً: ما جدوى أن يمنح المشرع الفرنسي الطلاق بإرادة منفردة إذا كان بإمكان الفرنسيين أن يتهربوا من هذا الحكم فقط عن طريق توطنهم في دولة تسمح بهذا النوع من الطلاق و تخضع الأشخاص لقانون الموطن؟
الفرع الثاني:إخضاع الأحوال الشخصية لقانون الموطن.
يستند الفقه المؤيد لهذا الاتجاه على عدة حجج:
-إن تطبيق قانون الموطن يؤدي إلى توحيد القانون المطبق في الدولة بحيث يتم تطبيق قانون تلك الدولة على كل المقيمين بها(أجانب و مواطنين)،مما يؤدي إلى نتيجة هامة و هي تسهيل مهمة القاضي،إذ سيطبق دائماً قانونه و هو قانون يعلمه جيداً بخلاف لو أخذنا ضابط الجنسية،إذ سيؤدي ذلك إلى إمكانية تطبيق قوانين أجنبية قد يجهلها القاضي تماماً؛
-إن تطبيق قانون الموطن أي قانون الدولة على كل المقيمين بها يساعد على إدماج الأجانب ضمن المواطنين؛
-إن تطبيق قانون الموطن يكون مناسب في الحالة التي يكون فيها الشخص عديم الجنسية،و هذه مسألة يمكن تصورها بخلاف الموطن إذ لا يمكن تصور شخص بدون موطن؛
-قد تختلف جنسية أفراد الأسرة الواحدة فيصعب إيجاد القانون الواجب التطبيق عليهم لو اعتمدنا ضابط الجنسية،و هذا بخلاف ضابط الموطن إذ موطن الأسرة عادة ما يتحدد بالنسبة للزوجة و الأبناء؛
هذا عن موقف الفقهاء أما فيما يخص القوانين فإن الملاحظ أن غالبية الدول تجمع بين الضابطين مع جعل أحدهما الأصل و الآخر احتياطاً،ففي فرنسا و غالبية الدول العربية،القاعدة هو إخضاع الأحوال الشخصية لضابط الجنسية و يتم استبداله بضابط الموطن متى كان الشخص عديم الجنسية،كما تشترط بعض الدول التي تأخذ بضابط الموطن كالدول الأنجلوسكسونية و الأسكندنافية إقامة الشخص فوق إقليمها لمدة معينة،فإذا لم تتوفر هذه المدة خضع لقانون الجنسية.
موقف المشرع الجزائري.
بالرجوع إلى قواعد الإسناد الجزائرية نجد أن المشرع قد أخضع جميع المسائل المتعلقة بالأحوال الشخصية لقانون الجنسية مستبعداً بذلك ضابط الموطن،غير أن مثل هذا الموقف يطرح مشكلتين أساسيتين: حالة تعدد الجنسيات و حالة انعدام الجنسية:
1)حالة تعدد الجنسيات.
نص المشرع على هذه الحالة في المادة 22 من القانون المدني،و يتضح منها أنه يجب التفرقة بين فرضيتين :
الفرضية الأولى: إذا كان الشخص يحمل عدة جنسيات من بينها الجنسية الجزائرية في مثل هذه الحالة القاضي الجزائري متى رفع النزاع أمامه لا يعتد سوى بالجنسية الجزائرية،و يطبق القانون الجزائري مباشرة؛
الفرضية الثانية: تتمثل في الحالة التي يحمل فيا الشخص عدة جنسيات ليس من بينها الجنسية الجزائرية.
في مثل هذه الحالة تقضي الفقرة 1 من المادة 22 بأنه "...يقوم القاضي بتطبيق الجنسية الحقيقية" وهذه صياغة غير موفقة إذ الأصح هو "الجنسية الفعلية"،و التي يقصد بها جنسية الدولة التي يكون الشخص أكثر ارتباطاً بها من باقي الدول الأخرى التي يحمل جنسيتها،و يظهر هذا الارتباط من خلال تصرفات الشخص،فمن تكون له لديه في الوقت نفسه الجنسية الفرنسية و الاسبانية غير أنه يعيش في فرنسا و يمارس حق الانتخاب هناك و يدفع الضرائب للخزينة الفرنسية بلا شك ستكون فرنسا هي الدولة الأكثر ارتباطاً بهذا الشخص،و بالتالي كانت الجنسية الفرنسية لا الاسبانية هي جنسيته الفعلية.
2)حالة انعدام الجنسية.
جاء حكم هذه الحالة في الفقرة 3 من المادة 22 قانون مدني،حيث تورد استثناءاً على القاعدة التي تقضي بتطبيق قانون الجنسية في مجال الأحوال الشخصية،إذ تنص صراحة على أنه في حالة انعدام الجنسية يقوم القاضي بتطبيق قانون موطن أو محل إقامة الشخص.
المطلب الثاني: نطاق القانون الشخصي.
طبقاً للقانون الجزائري يندرج ضمن الأحوال الشخصية الحالة و الأهلية،الزواج و آثاره،الميراث و الوصية،الهبة و الوقف.
الفرع الأول : الأهلية.
يظهر من المادة 10 من القانون المدني أن هناك قاعدة و هناك استثناء،القاعدة هي خضوع الشخص في مجال الحالة و الأهلية لقانون الجنسية إذ على ضوئه يتم تحديد ما إذا كان الشخص كامل أو ناقص أو عديم الأهلية،غير أنه قد يحدث أن يبرم أحد الأشخاص تصرف مالي مع شخصٍ آخر أجنبي و يكون هذا الأخير كامل الأهلية طبقاً لقانون الدولة التي أبرم فيها التصرف في حين أن قانون جنسيته يعتبره ناقص الأهلية،فهل يخضع هنا دائماً لقانون جنسيته فيعتبر ناقص الأهلية و يكون بإمكانه إبطال التصرف،أم نستبعد قانون جنسيته و نطبق قانون الدولة التي أبرم فيها التصرف فنعتبره كامل الأهلية حماية لاستقرار المعاملات؟ يستقر القضاء الفرنسي و كذا المشرع الجزائري في هذه الحالة على عدم خضوع الشخص لقانون جنسيته كاستثناء من القاعدة العامة،هذا الاستثناء ورد في المادة 10 فقرة 2 من القانون المدني،و يظهر منها أنه لإعمال هذا الاستثناء يجب توافر جملة من الشروط:
الشرط الأول: أن يكون التصرف مالياً كأن يتعلق الأمر بعقد بيعٍ مثلاً،و هذا يعني أن المسائل المتعلقة بالأحوال الشخصية لا تخضع لهذا الاستثناء؛
الشرط الثاني: أن يكون هذا التصرف المالي قد تم في الجزائر و أنتج كل آثاره بها؛
الشرط الثالث: وجوب أن يكون الأجنبي ناقص الأهلية طبقاً لقانون جنسيته و كامل الأهلية طبقاً للقانون الجزائري؛
الشرط الرابع: وجوب أن يكون نقص الأهلية لسبب غير ظاهر و يصعب تبينه،فعليه لا يمكن الاحتجاج بهذا الاستثناء إذا تعاقد مع صبي أو مجنون جنوناً مطبقاً إذ نقص الأهلية أو انعدامه لا يدع هنا مجالاً للشك؛
الشرط الخامس: و الأخير و هو وجوب أن يكون الطرف الذي تعاقد مع الأجنبي جزائرياً،و هذا ما يستنتج من عبارة "إذا كان أحد الطرفين أجنبياً"؛
فإذا ما اجتمعت جميع هذه الشروط أمكن للطرف الذي تعاقد مع أجنبي و هو يجهل أنه غير كامل الأهلية طبقاً لقانون هذا الأخير أن يعتذر بجهله،و بالتالي لا يؤثر ذلك على التصرف الذي أبرمه إذ يعتبر دائماً صحيحاً،و تجدر الإشارة إلى أن هذا الاستثناء الذي أقرّه المشرع الجزائري في المادة 10 فقرة 2 من القانون المدني،قد سبق للقضاء الفرنسي أن اعتمده في قضية (LIZARDI) 1861،إذ يجمع الفقه أن هذه القضية تعتبر الأصل التاريخي لهذا الاستثناء،هذا هو إذاً موقف المشرع الجزائري و هو اعتماده كمبدأ عام على ضابط الجنسية في مجال الأهلية،إذ أن قانون جنسية الشخص هو الذي يحدد ما إذا كان هذا الأخير كامل الأهلية أو ناقصها أو عديمها،و لنفرض الآن أن الشخص كان قاصراً أو عديم الأهلية لاشك أنه في هذه الحالة سيخضع لنظام قانوني يكفل له الحماية اللازمة،و قد يحدث أن تختلف جنسيته عن جنسية القائم بحمايته فيطرح التساؤل أي قانون يكون واجب التطبيق؟
قضى المشرع الجزائري بوجوب تطبيق في مثل هذه الحالة قانون الشخص الذي تجب حمايته أي قانون جنسية القاصر أو عديم الأهلية سواء كان نقص الأهلية أو انعدامها راجع إلى عدم بلوغ السن القانوني أو كان نتيجة إصابة الشخص بعارض من عوارض الأهلية،و هذا ما جاء صراحة في المادة 15 من القانون المدني،على أن ذات المادة أوردت استثناءاً في فقرتها 2 حيث قررت إخضاع القاصر أو عديم الأهلية لا لقانون جنسيته و إنما للقانون الجزائري متى توافر شرطان:
الشرط الأول: أن يتعلق الأمر بتدابير مستعجلة،تم اتخاذها أمام القضاء الجزائري؛
الشرط الثاني: أن يكون القاصر أو عديم الأهلية إمَّا مقيماً في الجزائر أثناء اتخاذ تلك الإجراءات و إما أن تتعلق تلك التدابير بأموال مملوكة للقاصر موجودة في الجزائر.
و إذا رجعنا إلى القانون الاتفاقي فإننا نجد بعض المعاهدات الدولية الخاصة بحماية القصر و عديمي الأهلية كمعاهدة "لاهاي" في 5 اكتوبر 1963 الخاصة بحماية القصر و التي أخذت كمبدأ عام بقانون محل إقامة القاصر،و كذلك معاهدة "لاهاي" بتاريخ 20 جانفي 2000 الخاصة بحماية البالغين العاجزين عن إدارة شؤونهم لإصابتهم بعارض من العوارض و التي تأخذ هي أيضاً كمبدأ عام بقانون محل إقامة الشخص الواجب حمايته.
الفرع الثاني: الرابطة الزوجية.
متى انعقد الزواج صحيحاً رتب آثاراً شخصية و مالية و الأصل في عقد الزواج التأبيد،غير أن ذلك لا يعني عدم إمكانية فك الرابطة الزوجية و عليه سيتم دراسة موضوع الزواج في ثلاث نقاط رئيسية:
انعقاد الزواج،آثار الزواج و انقضاء الرابطة الزوجية؛
أولاً: انعقاد الزواج.
الأصل أن يبدأ الزواج بمقدمة تسمى الخطبة،و يطرح التساؤل عن تكييفها القانوني؟و سبب طرح هذا السؤال هو اختلاف الأنظمة القانونية في نظرتها للخطبة فمن هذه الأنظمة من تدخلها ضمن نظام العقود،فتعتبر الخطبة مجرد عقد العدول عنه يرتب المسؤولية التعاقدية،بينما هناك من ينفي عن الخطبة صفتها كعقد و يرى أن فسخها يعتبر عملاً ضاراً،فيخضع بالتالي لقاعدة الإسناد الخاصة بالمسؤولية التقصيرية،و هذا هو اتجاه الفقه و القضاء الفرنسي،أما في الجزائر فموقف المشرع يتجلى في المادة 5 من قانون الأسرة و التي تقضي بأن "الخطبة وعد بالزواج و يجوز للطرفين العدول عن الخطبة"،و هذا يعني أن الخطبة في ظل القانون الجزائري لا ترتب أي أثر ملزم،و تدخل ضمن مسائل الأحوال الشخصية و كونها من مقدمات الزواج فإنها تخضع لنفس القانون الذي يخضع له عقد الزواج من حيث إنشائه،و لنا أن نتساءل هنا عن هذا القانون ؟يجب التفرقة بين الشروط الموضوعية لانعقاد الزواج و الشروط الشكلية.
أ)الشروط الموضوعية لانعقاد الزواج.
تنص المادة 11 قانون مدني على ما يلي "الشروط الخاصة بصحة الزواج يطبق عليها القانون الوطني لكل من الزوجين".
1-انعقاد الزواج بين أجنبين: قد يقدم أجنبيان على إبرام عقد زواجهما في الجزائر لا يطرح أي إشكال إذا كان هؤلاء متحدي الجنسية،إذ سيتم تطبيق قانون جنسيتهما المشترك مع وجوب مراعاة مقتضيات النظام العام في الجزائر،و إنما الإشكال يطرح عندما يكون الطرفان مختلفي الجنسية فالمشرع يقضي بتطبيق قانونهما معاً،فكيف يتم هذا التطبيق؟البعض تكلم عن التطبيق الجامع للقانونين، و يقصد بذلك وجوب أن يستوفي الزوج الشروط الموضوعية النصوص عليها في قانون جنسية زوجته، و الشيء نفسه بالنسبة إذ يجب أن تتوفر فيها جميع الشروط المقررة في قانونها و كذا الشروط المنصوص عليها في قانون جنسية زوجها،و يعلل أنصار هذا الاتجاه موقفهم هذا بالقول بأن الغرض من تطبيق قانون الزوجين هو حماية الرابطة الزوجية في حد ذاتها و ليس حماية أحد الزوجين،غير أن مثل هذا الموقف تم انتقاده إذ أن القول بالتطبيق الجامع لقانون الزوجين يؤدي في النهاية إلى تطبيق القانون الأكثر تشدداً و في أغلب الحالات عدم إمكانية انعقاد الزواج،لذلك يتجه غالبية الفقه إلى الأخذ بمبدأ التطبيق الموزع للقانونيين و يقصد به وجوب أن يستوفي الزوج الشروط الموضوعية المنصوص عليها في قانون جنسيته فقط دون حاجة لاستيفاء الشروط الموضوعية المنصوص عليها في قانون جنسية زوجته، و الشيء نفسه بالنسبة للزوجة،غير أنه إذا كان هذا هو المبدأ فإنه استثناءاً يجب الأخذ بالتطبيق الجامع فيما يخص موانع الزواج لخطورتها و قيامها على حماية مصالح اجتماعية شريطة أن تقوم هذه الموانع على أسس أخلاقية و إنسانية كالقرابة مثلاً،و هذا بعكس تلك الموانع التي تقوم فقط على أسس إقليمية و عنصرية كمنع الزواج بسبب اختلاف اللون مثلاً،فمثل هذه الموانع يتم استبعادها و لا تؤخذ بعين الاعتبار.
2-انعقاد الزواج بين طرفين أحدهما جزائري: إذا كان الأصل حسب المادة 11 قانون مدني هو تطبيق قانون الزوجين فإن المشرع أورد استثناءاً في المادة 13 قانون مدني مفاده خضوع العقد للشروط الموضوعية المنصوص عليها في القانون الجزائري فقط دونما حاجة لتطبيق الشروط المنصوص عليها في قانون الطرف الآخر،بمعنى آخر متى توفر في الطرف الجزائري سواء كان رجل أو امرأة الشروط الموضوعية المنصوص عليها في قانون الأسرة الجزائري كان ذلك كافياً لصحة عقد الزواج حتى و إن لم تتوفر في الطرف الآخر الشروط الموضوعية المنصوص عليها في قانونه،و إن كان قد استثنى في هذه الحالة الأهلية إذ يجب أن يكون ذلك الأجنبي بالغاً للسن القانوني للزواج طبقاً لما يقضي به قانون جنسيته.
ب)الشروط الشكلية لانعقاد الزواج.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تتمة السداسي الأول،بداية السداسي الثاني ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ب)الشروط الشكلية لانعقاد الزواج.
يقصد بالشروط الشكلية المظهر الخارجي لعقد الزواج،أي كل ما يتعلق بالإجراءات الشكلية للزواج كتحرير العقد ، إثباته و شهره،و كثيراً ما كانت الطقوس الدينية التي تصاحب عقد الزواج محل اختلاف بين الأنظمة القانونية،إذ في حين تعتبرها بعض القوانين شروط موضوعية تخلفها يؤدي إلى بطلان الزواج،كما كان عليه الحال في اليونان مثلاً قبل 1982 حيث كانت تعرف نظام الزواج الديني،تذهب دول أخرى كفرنسا مثلاً إلى إدراج تلك الطقوس ضمن الشروط الشكلية فلا يؤثر انعدامها على صحة عقد الزواج و الذي يسمى في هذه الحالة بـ"الزواج المدني"،و الحقيقة أن تحديد ما إذا كانت المراسيم و الطقوس الدينية تدخل ضمن الشكل أو الموضوع تبقى مسألة تكييف تخضع لقانون القاضي،و يرى الفقه الغالب في الجزائر أن هذه المراسيم و الطقوس هي من الشروط الشكلية إذ المقرر في الشريعة الإسلامية حيث يستمد القانون الجزائري في مجال الزواج أحكامه منها أنه لا يشترط لانعقاد الزواج صحيحاً حضور رجل دين أو إتباع مراسيم معينة،و يطرح التساؤل ما هو القانون الذي يخضع له المظهر الخارجي للزواج؟ بخلاف الشروط الموضوعية التي خصص لها المشرع نصوص خاصة (المادتين 11 و 13 قانون مدني) لا نجد بخصوص شكل الزواج أي قاعدة إسناد خاصة و هو ما يعني وجوب الرجوع إلى القواعد العامة،و هذه القواعد هي تلك التي ورد ذكرها في المادة 19 قانون مدني و التي تنص على القانون الواجب التطبيق على شكل التصرفات بصفة عامة و تضع أربع ضوابط إسناد اختيارية و هي :قانون مكان الإبرام،قانون الموطن المشترك،قانون الجنسية المشتركة و أخيراً القانون الذي يخضع له العقد من حيث الموضوع.
اعتبار الزواج صحيحاً متى تم وفق قانون مكان إبرام العقد مبدأ تؤكده أيضاً المادة 95 من قانون الحالة المدنية الجزائري،حيث تنص على أنه "كل عقد خاص بالحالة المدنية للجزائريين و الأجانب صادر في بلد أجنبي يعتبر صحيحاً إذا حُرِر طبق الأوضاع المألوفة في هذا البلد"،و إذا كانت هذه المادة تنص على عقود الحالة المدنية بصفة عامة و التي تندرج ضمنها بطبيعة الحال عقود الزواج،فإن المادة 97 فقرة 2 من قانون الحالة المدنية جاءت خاصة بعقد الزواج فقط مقررة أن "الزواج الذي يعقد في بلد أجنبي بين جزائريين أو بين جزائري و أجنبية يعتبر صحيحاً إذا تم حسب الأوضاع المألوفة في ذلك البلد شريطة ألا يخالف الجزائري الشروط الأساسية التي يتطلبها القانون الوطني لمكان عقد الزواج".
حكم الزواج الدبلوماسي (القنصلي).
تسمح غالبية الدول لرعاياها المتواجدين في الدول الأجنبية بإبرام عقود زواجهم أمام الأعوان الدبلوماسيين و القناصل المعتمدين في تلك الدول الأجنبية،و خضوع عقد زواجهم بالتالي لقانونهم الوطني،و لقد أقرّ المشرع الجزائري كأصل عام باختصاص القنصليات و السفارات الجزائرية بإبرام عقود الزواج الخاصة بالمواطنين الجزائريين،و ذلك في المادتين 96 و 97 من قانون الحالة المدنية.
المادة 96 منه واجهت الحالة التي يكون فيها كل أطراف العلاقة جزائريين حيث نصت على ما يلي "كل عقد خاص بالحالة المدنية للجزائريين صادرة في بلد أجنبي يعتبر صحيحاً إذا حرره الأعوان الدبلوماسيون أو القناصل طبقاً للقوانين الجزائرية"؛
أما المادة 97 منه و بالضبط الفقرتان 2 و 3 فقد واجهتا حالة الزواج المختلط و يبدو منها أنه يتوجب التفرقة بين حالتين:
الحالة الأولى: تخص زواج جزائري بأجنبية تحمل جنسية البلد المضيف كزواج جزائري مقيم بفرنسا بفرنسية،هنا سيكون الأعوان الدبلوماسيون مختصين بتحرير عقد الزواج وفقاً للقانون الجزائري و سيكون هذا العقد صحيحاً؛
الحالة الثانية: زواج جزائري بأجنبية لا تحمل جنسية البلد المضيف في هذه الحالة قرر المشرع إعطاء ممثلياتنا بالخارج الحق في إبرام عقد الزواج فقط في الدول المحددة بمرسوم.
و نشير في النهاية إلى أن المادة 97 من قانون الحالة المدنية لم تنص إلا على الزواج الذي يكون بين جزائري و أجنبية،و لم تنص على زواج جزائرية بأجنبي، ما يعني عدم اختصاص الممثليات الدبلوماسية في هذه الحالة،و عدم إمكانية إبرامها لعقد الزواج.
ثانياً: آثار الزواج.
يقصد بهذه الآثار الحقوق و الالتزامات التي تترتب على عقد الزواج و هي على نوعين :
النوع الأول:آثار شخصية: تترتب على عاتق كل من الزوجين منها ما هي شخصية بحتة كواجب طاعة الزوجة لزوجها،و واجب الزوج السماح لزوجته زيارة أهلها،و منها ما هي شخصية ذات طبيعة مالية كواجب الزوج الإنفاق على زوجته؛
النوع الثاني:الآثار المالية: و هي المتعلقة بأموال الزوجين،و لم يفرق المشرع من حيث الإسناد بين الآثار الشخصية و المالية فأسندها لقانون واحد هو طبقاً للمادة 12 فقرة 1 قانون مدني هو قانون جنسية الزوج.و قد يحدث أن يقوم الزوج بتغيير جنسيته بعد الزواج في مثل هذه الحالة و طبقاً لنفس المادة لن يعتد بجنسيته الجديدة و إنما يتم تطبيق قانون الدولة التي كان يحمل جنسيتها وقت انعقاد الزواج،على أنه إذا كان المشرع الجزائري قد اعتد بالزوج و قضى بتطبيق قانون جنسيته دون أن يهتم بجنسية الزوجة و قانونها،فإنه طبقاً لمقتضيات المادة 13 قانون مدني ستنقلب الأمور و سيتم الاعتداد بجنسية الزوجة فقط و يطبق قانونها متى كانت هذه الأخيرة تحمل الجنسية الجزائرية وقت انعقاد الزواج،و بمعنى آخر و تماماً كما هو الأمر بالنسبة لانعقاد الزواج القانون الجزائري هو الذي سيكون واجب التطبيق بخصوص آثار الزواج بنوعيه متى كانت الزوجة تحمل الجنسية الجزائرية عند إبرامها لعقد الزواج.
ثالثاً: انقضاء الزواج.
تختلف الأنظمة القانونية كثيراً في هذا المجال فإلى وقت قريب كانت بعض الدول كاليونان و اسبانيا تمنع كلية فك الرابطة الزوجية بينما دول أخرى تسمح بذلك غير أنها تختلف في الطرق و الأسباب،ففي حين تذهب دول إلى التضييق من هذه الأسباب و الطرق توسع دول أخرى منها، و تختلف أيضاً القوانين حول القانون الذي يحكم فك الرابطة الزوجية،فالمشرع المصري يفرق بين الطلاق بالإرادة المنفردة للزوج و يخضعه لقانون جنسية هذا الأخير وقت صدور الطلاق منه،أما إذا كان سبب حل الرابطة الزوجية هو التطليق أو الخلع فيخضعه لقانون جنسية الزوج وقت رفع الدعوى،أما في القانون الجزائري فطبقاً للمادة 12 فقرة 2 قانون مدني المبدأ يبقى دائماً تطبيق قانون جنسية الزوج،لكن الجنسية التي يعتد بها هذه المرة هي تلك التي يحملها الزوج أثناء رفع الدعوى و ليس وقت انعقاد الزواج،و هنا أيضاً يتم تطبيق القانون الجزائري إذا كانت الزوجة تحمل الجنسية الجزائرية، و لكن و إعمالاً للمادة 13 قانون مدني الجنسية التي يعتد بها هنا هي تلك التي تحملها الزوجة وقت انعقاد الزواج و ليس وقت رفع الدعوى.
و لم يحدد المشرع الجزائري القانون الذي تخضع له النفقة الوقتية،و هي تلك التي يحكم بها القضاء للزوجة خلال الفترة الممتدة من وقت رفع الدعوى إلى حين صدور الحكم بفك الرابطة الزوجية،و لقد اختلفت الآراء في هذا المجال فذهب اتجاه إلى القول بتطبيق القانون الذي يحكم آثار الزواج على أساس من القول أن العلاقة الزوجية ما تزال قائمة،و يرى اتجاه آخر وجوب تطبيق القانون الذي يحكم فك العلاقة الزوجية بحجة أن هذه العلاقة و إن كانت قائمة فهي مهددة بالزوال،فنطبق قانون جنسية الزوج وقت رفع الدعوى،و يذهب اتجاه ثالث و هو الغالب إلى القول بإخضاع النفقة الوقتية إلى قانون القاضي لارتباطها بالأمن المدني في دولة هذا الأخير.
الفرع الثالث: النسب، و الكفالة، و النفقة بين الأقارب.
بخلاف النفقة لم ينظم المشرع الجزائري موضوع القانون واجب التطبيق على النسب و الكفالة إلا بعد تعديل القانون المدني لـ2005،حيث أضاف المادتين 13 مكرر،13مكرر1، الأولى تناولت النسب و الثانية تناولت موضوع الكفالة و التبني.
أولاً: النسب.
قبل التعديل و أمام عدم وجود نص كان يذهب الكثير من الشّراح في الجزائر إلى التفرقة بين النسب الشرعي و النسب الطبيعي،في الحالة الأولى كان يعتبر النسب أثراً من آثار الزواج فكان الرأي هو إخضاعه لقاعدة الإسناد الخاصة بذلك و هما المادتان 12 فقرة 1 و المادة 13 قانون مدني،أما فيما يخص النسب الطبيعي فالمقرر في الشريعة الإسلامية أن الطفل غير الشرعي يلحق نسبه بأمه لذلك كان الرأي هو تطبيق قانون جنسية الأم،هذه الآراء الفقهية يبدو أنها لم تجد صدى لها لدى المشرع الجزائري إذ يبدو واضحاً أنه لم يشأ إخضاع النسب للقانون الذي يحكم آثار الزواج،و إنما قرّر إخضاعه لقانون جنسية الأب،أما عن لحظة الاعتداد بهذه الجنسية فإن كان الأب حياً فهي الجنسية التي يحملها هذا الأب وقت ميلاد الطفل،أما إذا لم يكن كذلك يطبق قانون جنسية الأب وقت الوفاة،و الملاحظ هنا أن القانون الذي يحكم النسب يتسع مجاله ليشمل كيفية و حالات إثبات النسب و إنكاره و ما يترتب على ذلك من آثار.
ثانياً: الكفالة و التبني.
لم يفرق المشرع الجزائري في مجال الإسناد بين التبني و الكفالة فقرر في المادة 13 مكرر 1 إخضاعهما لقانون واحد،هذا القانون سيختلف بالنظر لموضوع النزاع،هل يتعلق بصحة الكفالة أو التبني أو أن الأمر يتعلق بآثار هذه الكفالة أو التبني،في الحالة الأولى سيتم تطبيق القانونين معاً قانون جنسية الكفيل أو المتبني،و قانون جنسية المكفول أو من تم تبنيه،و تكون الجنسية التي يعتد بها هي تلك التي يحملها هؤلاء عند إجراء الكفالة أو التبني،على أن الملاحظ هنا هو أن المشرع الجزائري و بخلاف ما هو مقرر بخصوص انعقاد الزواج لم ينص على تطبيق القانون الجزائري لوحده متى كان أحد الأطراف جزائرياً،هذا بخصوص صحة الكفالة أو التبني أما بالنسبة للآثار فيتم في هذه الحالة تطبيق قانون واحد هو قانون جنسية الكفيل أو المتبني.
ثالثاً: النفقة بين الأقارب.
نشير بداية أن النفقة المقصودة هنا هي تلك التي تكون بين الأقارب و لا يندرج ضمنها النفقة الواجبة على الزوج لزوجته،إذ هذه تعتبر أثراً من آثار الزواج و تخضع بالتالي لقاعدة الإسناد الخاصة بذلك،و نجد في النفقة بين الأقارب طرفان: طرف يتوجب عليه الإنفاق فيكون هو المدين بالنفقة و طرف يحصل على النفقة و له الحق بالمطالبة بها،و لقد قرر المشرع الجزائري في المادة 14 قانون مدني الاعتداد بالطرف الأول،فنص على تطبيق قانون جنسية المدين بالنفقة.
الفرع الرابع: الميراث،الوصية و التبرعات.
اهتمت المادة 16 قانون مدني بتحديد القانون الواجب التطبيق على كل من الميراث و الوصية و جميع التصرفات المضافة لما بعد الموت و كذلك الوقف و الهبة،فبالنسبة للميراث نجد أن المشرع الجزائري لم يحذو حذو القضاء الفرنسي الذي يفرق في الميراث بين العقار و المنقول،فيخضع الأول لقانون موقعه و الثاني لقانون آخر موطن للمتوفي،و إنما المبدأ في القانون الجزائري هو وحدة التركة حيث يسري على الميراث سواء كان عقاراً أو منقولاً قانون الجنسية التي كان يحملها المتوفي وقت وفاته،و تخضع الوصية بدورها و التي تعتبر تصرفاً مضافاً لما بعد الموت لنفس الحكم،إذ يتم إخضاعها لقانون جنسية الموصي وقت وفاته،و إضافة إلى الميراث و الوصية يستعمل المشرع عبارة سائر التصرفات التي تنفذ بعد الموت،و لفهم المقصود بهذه العبارة يتوجب الرجوع إلى المادتين 776 و 777 قانون مدني،حيث تعتبر المادة الأولى كل تصرف يقوم به شخص و هو في مرض الموت بمثابة تبرع مضاف إلى ما بعد الموت و يخضع حينها إلى أحكام الوصية،و طبقاً للمادة 777 يأخذ حكم الوصية أيضاً كل تصرف يجريه شخص لأحد ورثته و يبقي لنفسه حيازة الشيء المتصرف فيه و الانتفاع به.
و تناولت المادة 16 فقرة 2 قانون مدني أيضاً مسألة الهبة و الوقف،فقضت بتطبيق قانون جنسية الواهب أو من صدر منه الوقف،و العبرة بالجنسية التي تكون وقت إجراء الهبة أو الوقف.
المبحث الثاني: الالتزامات.
لدراسة قواعد الإسناد الخاصة بالالتزامات يتوجب التفرقة بين الالتزامات التعاقدية أي تلك التي تجد مصدرها في العقد،و الالتزامات غير التعاقدية.
المطلب الأول: الالتزامات التعاقدية.
لقد اهتمت كل من المادتين 18 و 19 من القانون المدني ببيان ضوابط الإسناد الخاصة بالقانون الواجب التطبيق على العقود الدولية،و يظهر من خلال هاتين المادتين أنه يجب التفرقة بين شكل العقد و موضوعه،على أنه قبل البحث في القانون الواجب التطبيق يجب بداءةً الوقوف عند مسألة أولية هي تحديد المقصود بالعقد الدولي،و هو ما يتم عن طريق ضبط معيار التفرقة بين عقد دولي و عقد داخلي.
الفرع الأول: المقصود بالعقد الدولي.
يتجه الفقه إلى تقديم معيارين أساسيين في هذا المجال:
المعيار الأول: قانوني: بحيث يكون العقد دولياً متى تخلله عنصر أجنبي،الشيء الذي يؤدي إلى ربط هذا العقد بأكثر من نظام قانوني،كاختلاف جنسية الأطراف المتعاقدة أو اختلاف موطنهم أو اختلاف مكان الإبرام عن مكان التنفيذ؛
المعيار الثاني: اقتصادي: فيوصف أنه اقتصادي كونه يعتبر العقد دولياً متى تضمن مساساً بمعطيات التجارة الدولية،كما لو أدى إلى نقل البضاعة من دولة لأخرى مقابل نقل الثمن أيضاً من دولة لأخرى،و هو ما يعني وجوب أن تتعدى آثار العقد الاقتصاد الداخلي للدولة عن طريق التصدير و الاستيراد و بالتالي انتقال الأموال عبر الحدود.
لم يهتم المشرع الجزائري ككثير من القوانين بوضع معيار يخص تحديد العقد الدولي،غير أن الكثير من الشراح رأوا إمكانية استخلاص ماهية العقد الدولي من خلال الرجوع إلى النصوص التي تنظم التحكيم التجاري الدولي في الجزائر و التي جاء فيها تحديد المقصود بالتحكيم الدولي و معيار التفرقة بينه و بين التحكيم الداخلي.و منه فإنه تطبيقاً لمقتضيات قانون الإجراءات المدنية القديم التحكيم كان يعتبر دولياً وفقاً للمادة 458 مكرر منه إذا كان يخص النزاعات المتعلقة بمصالح التجارة الدولية،و الذي يكون فيه مقر أو موطن أحد الطرفين على الأقل في الخارج.
فكان التحكيم يعتبر دولياً طبقاً لهذه المادة إذا اجتمع معيارين اثنين :الأول اقتصادي و هو أن يتعلق النزاع بمصالح التجارة الدولية،و الثاني قانوني: و هو وجوب أن يكون مقر أو موطن أحد الأطراف على الأقل خارج الجزائر.
في ظل قانون الإجراءات المدنية و الإدارية (الجديد) صارت المادة الخاصة بتحديد الطابع الدولي للتحكيم هي المادة 1039 منه حيث جاء فيها أنه "يعد التحكيم دولياً بمفهوم هذا القانون التحكيم الذي يخص النزاعات المتعلقة بالمصالح الاقتصادية لدولتين على الأقل"،المعيار إذاً صار هو ارتباط النزاع بالمصالح الاقتصادية لدولتين على الأقل،و هو المعيار الذي رأى فيه البعض جمعاً للمعيارين المقررين في القانون القديم بطريق جديدة،إذ فيه معيار اقتصادي يتعلق بمصالح التجارة الدولية،و معيار قانوني يرتبط هذه المرة لا بتعدد المقر أو الموطن فقط و إنما أيضاً بتعدد الدول و الجنسيات،و إذا حاولنا إسقاط ما هو مقرر في التحكيم على العقود فإننا نستخلص أن العقد لكي يكون دولي يجب أن يتوفر فيه كل من المعيارين القانوني و الاقتصادي.
الفرع الثاني: القانون الذي يحكم شكل العقد الدولي.
تنص المادة 19 على ما يلي "تخضع التصرفات القانونية في جانبها الشكلي لقانون المكان الذي تمت فيه و يجوز أيضاً أن تخضع لقانون الموطن المشترك للمتعاقدين أو لقانونهما الوطني المشترك أو للقانون الذي يسري على أحكامها الموضوعية"،ما الذي يمكن استخلاصه من هذه المادة؟
أولاً: هذه المادة تستعمل عبارة "شكل التصرفات القانونية" و هو ما يدخل العقود في هذا المجال،كما أن الشكل المقصود هنا هو المظهر الخارجي للتعبير عن الإرادة،و على ذلك يتم استثناء الشكل الذي يعتبر ركناً في العقد،إذ سيخضع هذا الأخير لنفس القانون الذي يحكم موضوع العقد؛
ثانياً: بخلاف الكثير من قواعد الإسناد الموجودة في القانون المدني أين هناك ضابط إسناد واحد،نجد أن المادة 19 وضعت أربع ضوابط إسناد تحكم شكل التصرفات القانونية؛
ثالثاً: الضوابط الأربعة المقررة في المادة 19 هي ضوابط اختيارية يرجع للأطراف حرية اختيار أي قانون يحكم عقدهما من الجانب الشكلي،و هذا ما يستفاد من عبارة "يجوز"؛
رابعاً: الضوابط المشار إليها في المادة 19 تؤدي إلى إخضاع العقد من الجانب الشكلي إلى قانون الدولة التي تم فيها إبرام العقد،و إما إلى قانون الجنسية متى كان طرفا العقد يحملان نفس الجنسية،و إما إلى قانون الموطن إذا كان للطرفين موطن مشترك،و أخيراً يمكن توحيد القانون المطبق و ذلك بأن يخضع العقد من الناحية الشكلية للقانون الذي يحكمه من حيث الموضوع،كما لو اتفق الأطراف على تطبيق قانون معين يحكم موضوع عقدهما فيكون هذا القانون هو الذي يخضع له العقد من حيث الشكل.
الفرع الثالث: القانون الواجب التطبيق على موضوع العقد.
لقد وردت قاعدة الإسناد الخاصة بذلك في المادة 18 قانون مدني حيث جاء فيها ما يلي " يسري على الالتزامات التعاقدية،القانون المختار من المتعاقدين إذا كانت له صلة حقيقية بالمتعاقدين،و في حالة عدم إمكان ذلك يطبق قانون الموطن المشترك أو الجنسية المشتركة،و في حالة عدم إمكان ذلك يطبق قانون محل إبرام العقد،غير أنه يسري على العقود المتعلقة بالعقار قانون موقعه"،يظهر من هذه المادة أنه يتوجب التفرقة بين العقود الواردة على المنقولات و العقود التي يكون محلها عقارات.
أولاً:العقود المتعلقة بالمنقولات.
طبقاً للمادة 18 الفقرات 1، 2 و3 تخضع العقود الواردة على المنقولات لثلاث ضوابط،على أنه يجب التنبيه هنا إلى أنه و بخلاف ما هو مقرر في المادة 19،هذه الضوابط ليست اختيارية و إنما هناك ضابط أصلي و ضوابط احتياطية.
أ-الضابط الأصلي (قانون الإرادة).
تطبيق قانون الإرادة في هذا المجال ما هو في الحقيقة سوى تكريس لمبدأ العقد شريعة المتعاقدين،حيث يستقر الفقه و القضاء و تشريع الكثير من الدول على إعطاء الأطراف الحرية في اختيار القانون الذي يحكم عقدهم من جانبه الموضوعي،و هو ما ذهب إليه المشرع الجزائري باستعماله عبارة القانون المختار من المتعاقدين،و يذهب غالبية الفقه إلى القول بوجوب الأخذ بالإرادة الصريحة حيث يتفق الطرفان صراحة على القانون الواجب التطبيق،و أيضاً الأخذ بالإرادة الضمنية أين لا نجد اتفاقاً بين الطرفين حول القانون المطبق،غير أنه يمكن استخلاص هذا الأخير من ظروف التعاقد.
هل الأطراف المتعاقدة حرة في اختيار أي قانون شاءوا حتى و لو لم تكن له أي صلة بالعقد المبرم؟
من الفقه و هم أنصار النزعة الذاتية من ينادي بذلك و يقول بإمكانية أن يختار الأطراف قانوناً حتى و لو لم تكن له صلة بالعقد،لكن مع وجوب توفر شرط واحد و هو ألا يكون هذا الاختيار مبنياً على غشٍ نحو القانون،أما أنصار النزعة الموضوعية فيرون خلاف ذلك إذ بالنسبة إليهم إعطاء الأطراف حرية الاختيار دون قيد من شأنه أن يتيح لهؤلاء فرصة التهرب من الأحكام الآمرة المرتبطة بالعقد،و منه ينادي هذا الفقه بضرورة توافر صلة بين القانون المختار و العقد،فإذا اتضح للقاضي انعدام هذه الصلة استبعد هذا القانون و تولى بنفسه تحديد القانون الذي يحكم العقد،و يبدو أن المشرع الجزائري قد انحاز إلى هذا الموقف الأخير حيث تقضي المادة 18 فقرة 1 قانون مدني صراحة بوجوب أن تتوفر صلة بين القانون المختار و العقد،أو بين هذا القانون و المتعاقدين و هي صلة يجب أن تكون حقيقية بتعبير المشرع الجزائري؛
ب-الضوابط الاحتياطية.
قد لا يتفق الأطراف صراحة على قانون معين،في مثل هذه الحالة وضعت المادة 19 قانون مدني ضوابط احتياطية جاءت وفق ترتيب يفيد الأولوية،إذ أمام انعدام الاتفاق على القاضي أن ينظر في جنسية الأطراف أو موطنهم،فإذا وجدها مشتركة بأن كان طرفا العقد يحملان نفس الجنسية أو كان موطنهما واحداً طبقا قانون الجنسية أو قانون الموطن بحسب الأحوال،لكن مثل هذا الاتحاد قد لا يتحقق في كل الأحوال في مثل هذه الحالة على القاضي الرجوع إلى قانون الدولة التي تم فيها إبرام العقد،على أنه يجب أن نذكر هنا أن الترتيب الذي قررته المادة 18 قانون مدني هو ترتيب يفيد الأولوية لا الاختيار و على القاضي احترامه،فهو ملزم بتطبيق قانون الإرادة متى وُجد و لا يلجأ إلى الضوابط الأخرى إلا إذا غاب هذا القانون،فإذا حدث ذلك فلا يطبق مباشرة قانون محل الإبرام و إنما عليه أن يتأكد قبل ذلك من الأطراف ليست لديهم جنسية مشتركة أو موطن مشترك فإذا تحقق ذلك طبق هذا القانون المشترك،أما إذا لم يتحقق ذلك هنا فقط يتم اللجوء إلى قانون بلد الإبرام.
ثانياً: العقود الواردة على عقارات.
لقد استثنى المشرع الجزائري في المادة 18 فقرة أخيرة من القانون المدني العقارات و أخضعها لضابط إسناد آخر يختلف عن الضوابط الأربع المقررة بخصوص المنقولات مقرراً ضابط إسناد واحد فقط عندما يتعلق الأمر بتحديد القانون الواجب التطبيق على العقود الدولية التي يكون محلها عقاراً،و هذا الضابط هو قانون موقع هذا العقار،و يذهب جانب من الفقه إلى القول بأن تطبيق قانون موقع العقار لا يكون إلا في حالة العقود التي ترتب حقوقاً عينية كعقد البيع مثلاً،أما العقود المرتبة حقوقاً شخصية كالإيجار فتخضع للحكم المقرر في الفقرات الثلاث الواردة في المادة 18 قانون مدني،على أن غالبية الفقه يرفض هذا القول و يرى إخضاع كل العقود العقارية لقانون واحد هو قانون موقع العقار و هو ما من شأنه أن يؤدي إلى تحقيق وحدة الأحكام القانونية المتعلقة بالعقود العقارية.
المطلب الثاني: الالتزامات غير التعاقدية.
تنقسم هذه الالتزامات إلى فعل ضار و التي تعرف أيضاً بالمسؤولية التقصيرية،و فعل نافع أو ما يسمى بالإثراء بلا سبب بتطبيقاته: الفضالة و الدفع غير المستحق،و لقد اهتمت المادة 20 قانون مدني،ببيان القانون الواجب التطبيق على الالتزامات غير التعاقدية فهي تخضع حسب الفقرة الأولى لقانون البلد الذي وقع فيه الفعل المنشئ للالتزامات و هو ما يعني إخضاع المسؤولية التقصيرية لقانون الدولة التي وقع فيها الفعل الضار،و إخضاع الإثراء بلا سبب لقانون الدولة التي تحقق فيها عنصر الإثراء و إخضاع الدفع غير المستحق إلى قانون الدولة التي تحقق فيها الدفع،و إخضاع الفضالة لقانون الدولة التي تولى فيها الفضولي شؤون رب العمل،و تعتبر المسؤولية التقصيرية أهم مصدر غير إرادي، و رغم أن إخضاع هذه الأخيرة لقانون مكان وقوع الفعل الضار أو ما يسمى بالقانون المحلي قانون مستقر عليه إلا أن الكثير من الفقه انتقد ذلك مشيراً إلى أنه قد يحدث في أحيان كثيرة أن يكون مكان حدوث الفعل الضار مجرد عنصر عارض،كما لو صدم جزائري بسيارته المسجلة و المؤمن عليها في الجزائر جزائرياً آخر في تونس و كان كل منهما متواجدين في هذه الدولة بغرض السياحة و لفترة قصيرة،لا شك هنا أن القانون التونسي لم تم تطبيقه سيكون مجرد قانون عارض،إذ جميع عناصر العلاقة ترتبط بالجزائر من أجل ذلك تذهب الكثير من التشريعات كالقانون الألماني و السويسري مثلاً إلى وضع ضوابط أخرى حيث يتم استبعاد القانون المحلي لحساب قانون الجنسية أو الجنسية متى اتحدت هذه الأخيرة.
أما في القانون الجزائري فإن المبدأ هو تطبيق القانون المحلي في كل الأحوال و لو اتحدت الجنسية أو الموطن و إن كان يجب من أجل ذلك توفر شرط واحد يمكن تسميته بشرط المشروعية،إذ طبقاً للمادة 20 فقرة 2 قانون مدني فإن القانون المحلي هو المبدأ المعتمد بخصوص جميع الالتزامات غير التعاقدية،هذا القانون يطبقه القاضي الجزائري كأصل عام دون قيد أو شرط إلا إذا تعلق الأمر بالمسؤولية التقصيرية،فهنا القاضي ملزم بالرجوع إلى كل من القانون المحلي و القانون الجزائري و لكن فقط لتقدير مدى مشروعية الفعل الضار المرتكب في الخارج،و باستثناء هذه الحالة أي حالة تقدير المشروعية فإن القانون المحلي يسري وحده لحكم الالتزام الناشئ عن الفعل الضار.
القسم الثاني: منهج القواعد المادية.
هي تلك القواعد التي تهدف إلى إعطاء الحل مباشرة و هي في ذلك تختلف عن قواعد التنازع التي تحل النزاع بصفة غير مباشرة،و يندرج ضمن مواضيع منهج القواعد المادية موضوع تنازع الاختصاص القضائي الدولي، تنفيذ الأحكام الأجنبية،موضوع مركز الأجانب و أخيراً الجنسية.
الفصل الأول: تنازع الاختصاص القضائي الدولي و تنفيذ الأحكام الأجنبية.
يراد بقواعد الاختصاص القضائي الدولي مجموع القواعد التي تحدد ولاية المحاكم الدولية تجاه غيرها من محاكم الدول الأخرى،في النزاعات المتضمنة عنصراً أجنبياً،فالمستقر عليه حالياً عند جميع دول العالم تقريباً هو اختصاص المحاكم الوطنية بالنظر في المنازعات التي تعرض عليها ليس فقط في الحالة التي تكون لتلك العلاقات الصفة الوطنية،بل حتى في الحالات المتضمنة أيضاً عنصراً أجنبياً و تتميز قواعد الاختصاص القضائي الدولي بطابعها الوطني إذ تستقل كل دولة بوضع قواعد لمحاكمها،على أن الملاحظ أن وضع هذه القواعد يرتبط في أغلب الدول بمبادئ عامة و أساسية يتم احترامها: كمبدأ قوة النفاذ،مبدأ اختصاص محكمة موطن المدعى عليه أو محل إقامته،مبدأ الاختصاص القائم على ضابط الجنسية،مبدأ اختصاص محكمة محل الإلزام،مبدأ الخضوع الاختياري،الاختصاص بطلب الإجراءات الوقتية أو التحفظية.
و أخيراً تخلي القضاء الوطني عن الفصل في الدعوى لصالح القضاء الأجنبي.
و إذا كان الأصل أن الحكم يتم تنفيذه داخل الدولة التي أصدرت محاكمها هذا الحكم و وفقاً للإجراءات المتبعة هناك فإنه مع ذلك قد يضطر من صدر الحكم لفائدته و لأسباب معينة أن يطلب تنفيذ الحكم في دولة أجنبية،و هنا تثور مشكلة مدى إمكانية تنفيذ هذا الحكم في هذه الدولة.
المبحث الأول: تنازع الاختصاص القضائي الدولي.
الملاحظ هو أنه نادراً ما نجد في تشريعات الدول نصوصاً تتناول موضوع الاختصاص القضائي الدولي بشيء من التفصيل،بل كل ما نجده هو بعض النصوص التي تتناول اختصاص القضاء الوطني في بعض الحالات المحددة،و التي ترتكز على فكرة وجود مواطن في النزاع،و هو ما يجعل التساؤل مطروحاً بخصوص الفرضية التي يكون فيها كل أطراف الدعوى أجانب،و هي مسألة كان للاجتهاد القضائي دور رئيسي في إيجاد الحلول المناسبة.
المطلب الأول: حالة وجود مواطن في النزاع.
يقصد بهذه الحالة أن يكون المدعي أو المدعى عليه أحد مواطني الدولة المرفوع أمامها النزاع،و يتبع القضاء الفرنسي في مثل هذه الفرضية حلاً مستمداً من بعض المواد المقررة في القانون المدني،و هو حل نجده أيضاً بشكل يكاد يكون مطابقاً في القانون الجزائري،و هذا يعني أن الوقوف على ما هو مقرر في هذا القانون الأخير يمر حتماً عبر تحليل موقف القضاء الفرنسي.
الفرع الأول: موقف القضاء الفرنسي.
إن الرغبة في توفير الحماية للمواطن الفرنسي من جهة و عدم ثقة القضاء الفرنسي في قضاء الدول الأخرى من جهة أخرى،جعل واضعي القانون المدني الفرنسي يفكرون في وضع آليات قانونية يستطيع من خلالها كل فرنسي مهما كانت الأحوال أن يلجأ إلى قضاء دولته أو يمثل أمامه،و هو ما تجسد من خلال وضع المادتين 14 و 15 قانون مدني فرنسي،و اللتان توصفان بامتياز المواطن الفرنسي،و لقد جاءت صياغة المادة 14 كالتالي "الأجنبي حتى و لو لم يكن مقيماً بفرنسا يجوز أن يكلف بالحضور أمام المحاكم الفرنسية،من أجل تنفيذ التزامات تعاقد عليها في فرنسا مع فرنسي،كما يمكن أن يقدم أمام محاكم فرنسا من أجل التزامات تعاقد عليها في بلد أجنبي مع فرنسيين"،و أما المادة 15 فاحتوت على ما يلي "يمكن تقديم فرنسي أمام محكمة فرنسية من أجل التزامات تعاقد عليها في بلد أجنبي حتى و لو تم ذلك مع أجنبي".
أولاً: مجال تطبيق المادتين 14 و 15 قانون مدني فرنسي.
توصف المادتان 14 و 15 بامتياز الاختصاص و ذلك لاقتصارهما على الفرنسيين فقط،و هؤلاء هم الأشخاص المستفيدون من هاتين المادتين،كما يظهر من نصوص هذه الأخيرة أن هناك أيضاً دعاوى محددة يشملها الامتياز.
أ-الأشخاص المستفيدون من المادتين 14 و 15.
بما أن المعيار هنا هو الجنسية فإنه يكفي أن يكون أحد الأطراف فرنسياً،سواء كان شخصاً طبيعياً أو معنوياً،حتى يثبت الاختصاص للمحاكم الفرنسية،في حالة المادة 14 الجنسية الفرنسية هي التي تعطي الحق للمدعي الفرنسي في أن يرفع دعواه أمام المحاكم الفرنسية ليس فقط ضد أجنبي بل حتى ضد فرنسي آخر ليس له موطن بفرنسا،أو أن النزاع ليس لديه أي علاقة مع فرنسا،أما في حالة المادة 15 فإن المحاكم الفرنسية يثبت لها الاختصاص لأن الجنسية الفرنسية هاته المرة يحملها المدعى عليه،إذاً في المادة 14 الفرنسي يكون مدعي بينما في المادة 15 يكون مدعى عليه،و إذا كانت الجنسية الفرنسية هي المعيار هنا لإعطاء الاختصاص للمحاكم الفرنسية،فإنه يبقى أن هذه الجنسية يجب أن تتوفر وقت رفع الدعوى،و هذا وحده كافي و لا يهمه بعدها ما إذا كانت هذه الجنسية غير متوفرة عند نشوء العلاقة سبب النزاع.
ب-الدعاوى التي تشملها المادتان 14 و 15 قانون مدني فرنسي.
التقيد بالتفسير الحرفي للمادتين 14 و 15 يجعل الامتياز المقرر للمواطن الفرنسي يقتصر فقط على النزاعات التي يكون موضوعها الالتزامات التعاقدية،أي أنه حتى تختص المحاكم الفرنسية فإنه يجب أن يكون أولاً أحد الأطراف فرنسياً،و أن يتعلق النزاع ثانياً بالتزام تعاقدي،مثل هذا التفسير قد يجعل المادتين 14 و 15 دون معنى،فهذه وجدت من أجل حماية المواطن الفرنسي و لاشك أن هذه الحماية ستكون ناقصة إذا اقتصرت على الالتزامات المالية العقدية دون المسائل الأخرى،و منه كان منطقياً عدم الاكتفاء بالتفسير الحرفي و التوسيع من مجال الدعاوى،و هذا ما عمد إليه القضاء الفرنسي حيث كان يسمح بالتمسك بالمادتين 14 و 15 حتى بخصوص الالتزامات غير التعاقدية بل و لو كان الأمر يتعلق بالتزامات غير مالية،مع مراعاة استثناءين :الأول يخص الدعاوى العينية العقارية الخاصة بعقار موجود خارج فرنسا،و الاستثناء الثاني يخص طرق التنفيذ التي تجري بالخارج،فهذه دعاوى لا يشملها الامتياز لتعلقها بسيادة الدولة الأجنبية.
ثانياً: طبيعة المادتين 14 و15 قانون مدني فرنسي.
يتفق الفقه و يتواتر القضاء في أحكامه على اعتبار المادتين 14 و 15 جوازيتان أو اختياريتان فهما مادتان تقرران امتيازات للفرنسي،و هو امتياز يمكن لهذا الأخير تقرير عدم الاستفادة منه،و هذا وضع يرتب نتيجتين أساسيتين: الأولى تخص القاضي المرفوع أمامه النزاع ،و الثانية تتعلق بالأطراف،فبالنسبة للقاضي لا يمكن مؤاخذة قضاة الموضوع عدم تطبيقهم التلقائي للمادتين 14 و 15،أما بالنسبة للأطراف فاعتبار كل من المادة 14 و 15 جوازية يعني بالنسبة لهم إمكانية التخلي عنهما،و هو عدول قد يتخذ مظهرين: المظهر الصريح و المظهر الضمني،في النوع الأول التخلي يتقرر بموجب بند صريح يدرج في العقد و من أجل هذا يسمي الفقه الفرنسي هذا النوع بالتخلي عن طريق الاتفاق،هذا و إذا كان التخلي يأخذ في بعض الحالات شكل التنازل و ذلك بأن ينص صراحة في العقد على أن يتنازل الطرف الفرنسي عن الامتياز المقرر له،فإن الغالب هو أن يكون التخلي عن طريق إدراج بند في العقد يحدد إما محكمة أجنبية و إما هيئة تحكيمية يتم اللجوء إليها في حال نشوء نزاع و هذا هو شرط التحكيم.
أما التخلي الضمني فيكون عن طريق اتخاذ موقف يستنتج منه تخلي الطرف الفرنسي عن الامتياز المقرر له،هذا الموقف يظهر من خلال المثول أمام قضاء دولة أجنبية و يتخذ صورتين: الأولى يكون فيها الفرنسي هو المدعي،و هذا يعني أنه هو الذي رفع دعواه أمام القضاء الأجنبي فيستخلص بالتالي تنازله ضمناً عن المادة 14،لكن قرينة التنازل هذه تبقى مجرد قرينة بسيطة يمكن استبعادها متى ظهر أن المدعي لم يلجأ إلى قضاء دولة أجنبية إلا لاعتقاده أن لخصمه أموالاً يمكن التنفيذ عليها هناك اعتقاد ظهر في النهاية أنه خاطئ.
أما الصورة الثانية فهي تلك التي يكون فيها الفرنسي مدعى عليه،حيث ترفع ضده دعوى أمام قضاء أجنبي فيمثل أمام هذا القضاء و يدافع عن نفسه،فيستخلص من ذلك تنازله عن الامتياز المقرر له في المادة 15،و سواء جاء التخلي بشكل صريح أو ضمني فإن من آثاره أن تصبح المحاكم الفرنسية غير مختصة،فإذا رُفع النزاع أمامها كان عليها أن تقضي بعدم اختصاصها لكن ليس تلقائياً و إنما عن طريق دفع بعدم الاختصاص يقدمه أحد الأطراف،و يكون قبل التطرق للموضوع.
ثالثاً:تحديد المحكمة الفرنسية المختصة محلياً في حالة الدعاوى المؤسسة على المادتين 14 و 15.
يختلف الحل وفق الحالات التالية:
المشكل لا يطرح عندما يكون للمدعى عليه الفرنسي أو الأجنبي موطن أو محل إقامة في فرنسا إذ ستطبق هنا القواعد العامة في الاختصاص المحلي الداخلي،أما في غير هذه الحالة فالحل سيختلف وفقاً للحالات المعروضة و هي على النحو التالي:
الحالة الأولى: هي تلك التي يكون فيها للمدعي موطن أو محل إقامة بفرنسا،هنا سيعطى الاختصاص للمحكمة التي يتواجد بها هذا الموطن أو المحل؛
الحالة الثانية: صورتها ألا يكون لا للمدعي و لا للمدعى عليه موطن أو محل إقامة بفرنسا،هنا يعطى الاختصاص للمحكمة التي من المقرر أن يتم التنفيذ في دائرة اختصاصها؛
الحالة الثالثة: فتظهر في الصورة التي تنعدم فيها كل الضوابط السابقة،هنا يستقر القضاء الفرنسي على إعطاء المدعي الخيار في رفع دعواه أمام أي محكمة فرنسية شاء شريطة ألا يكون اختياره منطوي على غش.
الفرع الثاني: اختصاص المحاكم الجزائرية القائم على الجنسية.
يعرف التشريع الجزائري مادتين يتناول مضمونهما الاختصاص العام الدولي للمحاكم الجزائرية المؤسس على الجنسية،و يتعلق الأمر بالمادتين 41 و 42 من قانون الإجراءات المدنية و الإدارية،
تنص المادة 41 على أنه "يجوز أن يكلف بالحضور كل أجنبي حتى و لو لم يكن مقيماً بالجزائر أمام الجهات القضائية الجزائرية لتنفيذ الالتزامات التي تعاقد عليها في الجزائر مع جزائري كما يجوز أيضاً تكليفه بالحضور أمام الجهات القضائية الجزائرية بشأن التزامات تعاقد عليها في بلد أجنبي مع جزائريين".
أما المادة 42 فتنص على أنه "يجوز أن يكلف بالحضور كل جزائري أمام الجهات القضائية الجزائرية بشأن التزامات تعاقد عليها في بلد أجنبي حتى و لو كان مع أجنبي".
ما هي الأمور التي يمكن استخلاصها من المادتين:
أولاً: لن يصعب على أحد ملاحظة أن هاتين المادتين ما هما سوى نقل حرفي للمادتين 14 و 15 قانون مدني فرنسي مع الاكتفاء بتغيير كلمة "فرنسي" بـــ"جزائري" و "فرنسا" بــ"الجزائر"؛
ثانياً:المشرع الجزائري بنقله الحرفي لم يأخذ إطلاقاً بعين الاعتبار ما انتهى إليه القضاء الفرنسي بخصوص تطبيقه للمادتين 14 و 15 خاصة فيما يخص الدعاوى المشمولة،حيث مازالت المادتان 41 و 42 تتكلم عن الالتزامات التعاقدية رغم أن القضاء في فرنسا مستقر على أن يشمل الامتياز كأصل عام جميع الدعاوى؛
ثالثاً:بخلاف المشرع الفرنسي حيث موضع المادتين 14 و 15 هو القانون المدني،في القانون الجزائري المادتان 41 و 42 هي من المواد الإجرائية حيث نجد موضعها في قانون الإجراءات المدنية و الإدارية في الفصل الخاص بالاختصاص الإقليمي،و بما أن المادتين 41 و 42 ما هما إلا نقل حرفي للمادتين 14 و 15 فإن ما قيل عند تحليل هذين المادتين سيكون نفسه بالنسبة للمواد الجزائرية.
المطلب الثاني: تحديد اختصاص القضاء الدولي في الحالة التي يكون فيها كل أطراف الدعوى أجانب.
إذا كان حق المواطن في أن يلجأ إلى قضاء دولته من أجل إنصافه و إعطائه العدالة يعتبر من البديهيات التي لا تقبل أي نقاش،فإن الأمور قد لا تكون كذلك عندما يتعلق الأمر بأجانب و نقصد هنا الحالة التي يكون فيها كل الأطراف أجانب إذ قد تختلط مسألة حق الالتجاء إلى القضاء مع مسألة مركز الأجانب فتؤثر الثانية مع الأولى،فالأجنبي يبقى دائماً مهما كانت الأحوال و الأمور صاحب حقوق هي أدنى من تلك التي تثبت للمواطنين،فيطرح التساؤل هل للأجنبي الحق في اللجوء إلى قضاء دولة هو ليس أحد مواطنيها أم أن الصفة الأجنبية ستحرمه من ذلك؟
الفرع الأول: مدى قبول الاختصاص في النزاعات القائمة بين الأجانب في القانون الفرنسي.
مباشرة بعد صدور القانون المدني ( 1804) صدرت بعض الأحكام رفض فيها القضاة قبول الاختصاص في دعاوى كان كل أطرافها أجانب،من بين هذه الأحكام ما أصدرته غرفة العرائض في 2 أفريل 1833 و الذي جاء فيه "حيث أنه يمكن للمحاكم الفرنسية-المؤسسة من أجل إعطاء العدالة للفرنسيين-أن تمتنع عن النظر في النزاعات القائمة بين الأجانب إلا إذا وجدت حالة خاصة يجيزها القانون"،رفض دعاوى الأجانب فقط لأنهم كذلك موقف يرده كثير من الشراح إلى أسباب عديدة كان أهمها تلك المستمدة من تفسير المادتين 14 و 15،إذا هما مادتان لا تُقِّران باختصاص المحاكم الفرنسية إلا إذا كان هناك طرف فرنسي،مما يعني بمفهوم المخالفة أن هذه المحاكم لا شأن لها بدعاوى كل أطرافها أجانب.
الواقع أن رفض الاختصاص بخصوص دعاوى الأجانب مسلك قوبل بمعارضة شديدة من قِبل غالبية الشراح،إذ هو بتعبير البعض موقف قابل للمناقشة من حيث الأساس و في نفس الوقت ذو آثار سيئة،فتفسير المادتين 14 و 15 بمفهوم المخالفة يوحي بأنه ليس هناك مواد أخرى تخص الاختصاص سوى هاتين المادتين، و هذا غير صحيح إذ إضافة إلى هاتين المادتين هناك القواعد العامة و هي قواعد لا شيء يمنع من استعمالها بخصوص الدعاوى المرفوعة من قِبل الأجانب،ثم أليس من الغريب أن نلزم أجانب نشأت حقوق لهم بفرنسا أن يلجؤوا إلى قضاء دولهم من أجل المطالبة بحماية هذه الحقوق؟ لا شك أن هناك صعوبة و مشقة لهؤلاء و لاشك أن المبدأ هو في أصله منافي لقواعد العدالة و يبدو أن هذه الاعتبارات كان لها تأثير على القضاء الفرنسي،حيث بدأ يدخل بصفة تدريجية استثناءات على القاعدة إلى أن تحولت هذه الاستثناءات إلى قاعدة حقيقية و صار المبدأ في النهاية هو نقيض ما تم اعتناقه من قبل،أي قبول جميع الدعاوى المرفوعة من قِبل الأجانب،و هو ما تكرس من خلال قرار أصدرته محكمة النقض الفرنسية سنة 1962 أعلنت فيه بشكل واضح و صريح أنه "الصفة الأجنبية للأطراف ليست سبباً لعدم اختصاص المحاكم الفرنسية التي يحدد اختصاصها الدولي من خلال امتداد قواعد الاختصاص الداخلية".
على أن اختصاص المحاكم الفرنسية في دعاوى الأجانب كان يجب أن يؤسس على قواعد و معايير و هي معايير لم تكن في الحقيقة سوى تلك المقررة في مجال الاختصاص الداخلي،حيث تم اعتمادها أيضاً في المجال الدولي و هذا ما يعرف بمبدأ "امتداد أو انعكاس قواعد الاختصاص الفرنسية الداخلية في المجال الدولي"،و الذي قررته محكمة النقض الفرنسية في بعض قراراتها،و على هذا الأساس كان القضاء الفرنسي لا يختص مثلاً في دعوى طلاق بين زوجين أجنبيين إلا إذا كان مسكن الزوجية موجوداً في فرنسا،و لا يختص في دعوى الدائنية إلا إذا كان للمدعى عليه موطن بفرنسا،و في دعاوى التركات لا يختص إلا إذا كان مكان افتتاح التركة موجوداً في فرنسا.
الفرع الثاني: مدى قبول الاختصاص في الدعاوى القائمة بين الأجانب في القانون الجزائري.
التطور الذي عرفه القضاء الفرنسي كان يجب أن يشمل حتى المحاكم المتواجدة في الجزائر،إذ أن هذه المحاكم في الحقيقة و إلى غاية استرجاع السيادة كانت تمثل النظام القضائي الفرنسي،و كانت بالتالي عبارة عن محاكم فرنسية و كان ذلك أمراً طبيعياً كون الجزائر كانت تعتبر وقتها من أقاليم ما وراء البحار التابعة لفرنسا.
تغيرت الأمور بعد استرجاع السيادة الوطنية إذ صارت المحاكم الجزائرية تصدر أحكامها باسم الشعب الجزائري،و كان التساؤل الذي يجب أن يطرح: هل هذه المحاكم مختصة فقط في الدعاوى المرفوعة من قِبل الجزائريين أم تختص أيضاً عندما يكون كل أطراف الدعوى أجانب؟ البحث في النصوص لا يفيدنا في إيجاد الجواب لأن النصوص الوحيدة الموجودة في القانون الجزائري و الخاصة بالاختصاص الدولي هما المادتان 41 و 42 قانون الإجراءات المدنية و الإدارية،و هي كما رأينا لا تتناول سوى الحالة التي يكون فيها أحد الأطراف جزائرياً،فهل سنفسر هنا أيضاً هاتين المادتين تفسيراً ضيقاً؟ و هل سيعتبر اللجوء إلى القضاء الجزائري من الحقوق المدنية التي لا تثبت إلا للمواطنين؟ الإجابة عن هذه الأسئلة ستكون بالنفي لأنه و إن لم يكن هناك نصوص قانونية خاصة فإن هناك بالمقابل الاجتهاد القضائي و الذي قرر منذ السنوات الأولى من الاستقلال حق الأجانب في الالتجاء إلى القضاء الجزائري و اختصاص هذا الأخير في الفصل في نزاعاتهم مقرراً أن "حق اللجوء إلى القضاء هو حق يقرره قانون الشعوب و لا يعتبر من الحقوق المدنية المقررة للمواطنين، و مادام الأمر كذلك و بما أنه لا يوجد في الجزائر نص يقضي بعدم قدرة الأجنبي الالتجاء إلى المحاكم الجزائرية أو تقديمه أمامها فإن الصفة الأجنبية لا تعتبر إطلاقاً سبباً لعدم الاختصاص"،و يلاحظ من حيثيات هذا الحكم الصادر عن محكمة استئناف العاصمة بتاريخ 19 جانفي 1966 أن ما كان سبباً في رفض الاختصاص أمام القضاء الفرنسي يكاد يكون هو نفسه السبب الذي يجعل القضاء الجزائري يقبل الاختصاص في دعاوى الأجانب،فلقد تم التذرع في فرنسا بغياب النصوص ليتم الاستنتاج بمفهوم المخالفة و يتم تقرير عدم الاختصاص،في حين كان موقف القضاء الجزائري مختلف تماماً حيث اعتبر أن الأصل هو حق الأجانب في الالتجاء إلى القضاء فإذا أراد المشرع أن يخالف هذا الأصل و يمنعه فما عليه إلا أن يضع نصاً يقضي بالمنع،و لقد كان أيضاً من تبريرات الموقف القديم للقضاء الفرنسي اعتبار اللجوء إلى القضاء أحد الحقوق المدنية التي تثبت للمواطنين فقط،و هو التبرير الذي رأت محكمة استئناف العاصمة عكسه تماماً،حيث قرنت حق الالتجاء إلى القضاء بقانون الشعوب،و هي بدون شك كانت تقصد بهذه العبارة الحقوق التي تثبت لكل إنسان مهما كانت جنسيته مستبعدة في نفس الوقت و بعبارات صريحة أن يكون حق اللجوء إلى القضاء من الحقوق المدنية.
إذاً بما أن المحاكم الجزائرية ستكون مختصة بالنظر في دعاوى كل أطرافها أجانب فهذا يعني أنه ليس هناك ما يمنع من اختصاص المحاكم الجزائرية في جميع الدعاوى،لكن هل سيكون ذلك في كل الأحوال حتى و لو لم يكن للجزائر علاقة بالنزاع،في الحقيقة المقرر طبقاً لقواعد الاختصاص الداخلي هو وجوب أن يكون هناك ارتباط بين النزاع و المحكمة المختصة و ليس هناك أي سبب يجعل الأمور تختلف في المجال الدولي.
و منه و انطلاقاً من مبدأ الامتداد الذي قرره القضاء الفرنسي فإن المحاكم الجزائرية ستكون مختصة متى تحقق معيار من معايير الاختصاص المقررة في قانون الإجراءات المدنية و الإدارية،و لقد سلك القضاء الجزائري هذا المسلك حيث قضت محكمة قسنطينة في حكم لها بتاريخ 20 أفريل 1992 بأنه "تكون الجهات القضائية الجزائرية مختصة تجاه الأجانب الماثلين أمامها عندما يكون للنزاع المعروض ارتباط بالجزائر كالإقامة أو الموطن،كما هو الشأن في قضية الحال".
المبحث الثاني: تنفيذ الأحكام و السندات الأجنبية.
إن فكرة السيادة و احترام النظام العام في دولة القاضي تجعل الحكم الأجنبي في دولة القاضي يعامل معاملة مختلفة عن الحكم الصادر عن القضاء الوطني،إذ مما لا شك فيه أن تنفيذ حكم أجنبي صادر عن قضاء دولة أجنبية دون قيد يعني الخضوع لهذه الدولة،إذ سيمتثل الأعوان المكلفون بالتنفيذ لا لأوامر قضائهم و إنما لأوامر قضاء أجنبي،هذا من جهة من جهة أخرى قد يحدث أن يصدر حكم في الخارج و يكون من شأن تنفيذه أن يخالف المبادئ الأساسية في دولة القاضي،فهل من الصائب تنفيذ الحكم رغم هذا التعارض؟
المطلب الأول: شروط التنفيذ.
لقد وضع المشرع الجزائري شروطاً خاصة لتنفيذ الأحكام الصادرة عن جهات قضائية أجنبية و شروط أخرى تخص العقود و السندات الرسمية الأجنبية.
الفرع الأول:شروط تنفيذ الأحكام الصادرة عن جهات قضائية أجنبية.
هذه الشروط و التي ورد ذكرها في المادة 605 قانون الإجراءات المدنية و الإدارية منها ما يتعلق بالقواعد الإجرائية المتبعة في إصدار الحكم،و منها ما يرتبط بمحتوى هذا الحكم،و ما دام أن الأمر يتعلق بمسألة تنفيذ حكم أجنبي يرتبط بمصالح خاصة للأفراد فإن المنطق يقضي بأن يكون لهذا الحكم الصفة الأجنبية،و أن يكون قد فصل في نزاع يحكمه القانون الخاص.
أولاً:ثبوت الصفة الأجنبية للحكم و فصله في علاقة يحكمها القانون الخاص.
يتفق الفقه على أن العبرة في تحديد الصفة الأجنبية للحكم هي صدور هذا الأخير باسم سيادة دولة أجنبية،و هذا يعني أن الأحكام التي تصدر باسم دولة محمية تعتبر أجنبية بالنسبة للدولة الحامية و العكس صحيح،ذلك أن الحماية تفترض انتقاصاً في السيادة و ليس انعداماً لها،و هذا ما سار عليه القضاء الفرنسي بخصوص الأحكام التي كانت تصدر من المحاكم المغربية و التونسية،حيث كان هذا القضاء يشترط من أجل تنفيذ هذه الأحكام بفرنسا الحصول على أمر بالتنفيذ،و بالمقابل كان يعتبر الأحكام الصادرة من محاكم موجودة في المستعمرات الفرنسية و المعروفة بأقاليم ما وراء البحار بمثابة أحكام وطنية على اعتبار أنها تصدر باسم السيادة الفرنسية،ذلك ما كان عليه الحال مثلاً بالنسبة للأحكام الصادرة من جهات قضائية متواجدة بالجزائر أثناء فترة الاحتلال.
و إذا كان صدور حكم باسم سيادة دولة أجنبية شرطاً ضرورياً لإمكانية التكلم عن حكم أجنبي فإن ذلك يبقى غير كافي، إذ يجب أن يقترن ذلك بشرط آخر من أجل إمكانية إخضاع الحكم لأمر بالتنفيذ،و هو وجوب أن يكون هذا الأخير قد فصل في نزاع يرتبط بمصالح خاصة مدنية أو تجارية و هو ما يتحقق في الحالة التي يكون فيها الحكم متعلقاً بنزاع يحكمه القانون الخاص،و كذلك الأحكام الجنائية لكن متى رتبت آثاراً مدنية إذ هذه الأخيرة فقط هي التي تكون قابلة للتنفيذ و هذا كله يعني أن العبرة هي ليست بطبيعة الجهة القضائية التي أصدرت الحكم و إنما بطبيعة الحكم في حد ذاته،هل هو مرتبط بحقوق خاصة أم لا،فإذا كان كذلك خضع هذا الأخير لنظام الأمر بالتنفيذ.
ثانياً: عدم مخالفة الحكم الأجنبي لقواعد الاختصاص.
هذا الشرط هو ما يعرف بشرط الرقابة القضائية و الذي عبرت عنه الفقرة 1 من المادة 605 قانون الإجراءات المدنية و الإدارية بنصها "ألا يتضمن (الحكم الأجنبي) ما يخالف قواعد الاختصاص"، و يترتب على ذلك أن قاضي التنفيذ ملزم بالتأكد من أن الحكم الأجنبي صدر من محاكم مختصة،على أن الملاحظ هنا هو أن هذه المادة لم تحدد القانون الذي يتوجب الرجوع إليه من أجل التأكد من ذلك،هل هو القانون الجزائري بوصفه قانون بلد التنفيذ أم قانون الدولة التي أصدر قضاؤها الحكم.
ثالثاً:وجوب أن يكون الحكم الأجنبي حائزاً لقوة الشيء المقضي فيه.
مفاد هذا الشرط هو استلزام أن يكون الحكم الأجنبي المراد تنفيذه نهائياً غير قابل للطعن فيه بالطرق العادية،و هو ما يعني وجوب أن يكون الحكم قابلاً للتنفيذ،و يستنتج هذا من عبارة "الشيء المقضي فيه" المستعملة في الفقرة 2 من المادة 605 قانون الإجراءات المدنية و الإدارية التي تقتضي إصدار أمر إلى عمال السلطة العامة بتنفيذ الحكم جبراً عند الاقتضاء،و ترجع علة اشتراط قوة الشيء المقضي فيه إلى الحكم الأجنبي إلى فكرة توفير الاستقرار،إذ لو تم الاكتفاء بوجود الحكم فقط دون اشتراط أن يكون نهائياً فإنه ليس هناك ما يمنع من إمكانية إصدار أمر بالتنفيذ بخصوص حكم أجنبي تم إلغاؤه في الدولة التي صدر فيها،و بخلاف الشرط الأول الخاص برقابة الاختصاص القضائي نجد أن المشرع الجزائري قد حدد هذه المرة القانون الذي يرجع إليه من أجل الوقوف على مدى توفر الحكم الأجنبي لقوة الشيء المقضي فيه،حيث تنص الفقرة 2 من المادة 605 قانون إجراءات مدنية و إدارية صراحة على الرجوع إلى قانون البلد الذي أصدر قضاؤه الحكم.
رابعاً:عدم مخالفة الحكم الأجنبي للنظام العام و الآداب العامة بالجزائر.
نصت على ذلك المادة 605 فقرة 4 قانون إجراءات مدنية و إدارية حيث يتم رفض تنفيذ الحكم الأجنبي متى تضمن مخالفة للنظام العام و الآداب العامة،و يقسم الفقه و القضاء في فرنسا النظام العام إلى نوعين:
نظام عام من حيث الموضوع،و نظام عام من حيث الإجراءات و هو تقسيم لا شيء يمنع من الأخذ به في ظل القانون الجزائري خاصة و أن المادة 605 قانون إجراءات مدنية لم تتكلم عن إلزامية أن يتأكد القاضي من سلامة الإجراءات المتبعة و صحتها كشرط للأمر بالتنفيذ كالقانون التونسي حيث تقضي المادة 11 فقرة 3 قانون دولي خاص التي ترفض التنفيذ إذا ظهر أن الحكم الأجنبي صدر وفق إجراءات لم تحترم حقوق الدفاع.
التعارض مع النظام العام أو الآداب العامة أثره هو رفض تنفيذ الحكم كلياً،على أنه إذا كان هذا هو الأصل فإنه ليس هناك ما يمنع من إمكانية الأمر بالتنفيذ الجزئي بحيث يتم الأمر بتنفيذ فقط الجزئية التي لا تتعارض مع النظام العام و رفض المسائل الأخرى التي تتضمن تعارضها مع هذا الأخير.على أن الفقه و إن كان يسلم بهذا الحل فهو بالمقابل حل يجب أن يستوفي شرطاً أساسياً و هو وجوب أن تكون المسائل التي فصل فيها الحكم قابلة للتجزئة بحيث يمكن الفصل بينها،فإذا لم يتحقق ذلك توجب رفض الحكم كلية.
خامساً: عدم تعارض الحكم الأجنبي مع حكم صادر عن الجهات القضائية الوطنية.
عبرت عن هذا الشرط الفقرة 3 من المادة 605 قانون الإجراءات المدنية و الإدارية و هذا بنصها "ألا يتعارض الحكم الأجنبي مع أمر أو حكم أو قرار سبق صدوره من جهات قضائية جزائرية و أثير من المدعى عليه"،و يرى الكثير من الشراح أن هذا الشرط و إن تم وضعه في نص تشريعي فإنه يعتبر في حقيقة الأمر بمثابة تطبيق لفكرة النظام العام.
هذه هي مجمل الشروط التي ورد ذكرها في التشريع الجزائري من أجل إمكانية الأمر بتنفيذ حكم أجنبي في الجزائر،و الملاحظ هو أن هناك شروط أخرى يعرفها القضاء و التشريع في الكثير من الدول لم يرد ذكرها في القانون الجزائري و التي من بينها شرط الرقابة التشريعية الذي كان معروفاً عند القضاء الفرنسي،حيث كان يتم اشتراط أن يكون القاضي الأجنبي الذي أصدر الحكم قد طبق نفس القانون الذي تشير إليه قاعدة الإسناد الفرنسية و هو موقف لم يكن من الصعب على أحد اكتشاف سلبياته إذ كانت نتيجته هو رفض التنفيذ في كل مرة تختلف فيها قواعد الإسناد الفرنسية مع تلك المقررة في قانون دولة القاضي الذي أصدر الحكم.و هو ما يحدث في أغلب الأحوال،و لقد عدل القضاء الفرنسي في أحكامه الحديثة على هذا الشرط.
الفرع الثاني: شروط تنفيذ العقود و السندات الرسمية الأجنبية.
هذه الشروط جاء النص عليها في المادة 606 قانون الإجراءات المدنية و الإدارية و هي في مجملها شروط تتناسب مع طبيعة الوثيقة المطلوب الاعتراف بها أو تنفيذها،إذ الأمر يتعلق هنا بسند رسمي لا بحكم أجنبي،و بالتالي لا شك أن هناك شروطاً قد يتم تطلبها في حالة السند و العقد غير مطلوبة في حالة الحكم الأجنبي و العكس صحيح،أول هذه الشروط هو وجوب أن يكون السند متوفراً على الشروط المطلوبة لرسميته،و هو شيء يتحدد وفق قانون الدولة التي تم فيها تحرير السند،أما الشرط الثاني فهو أن يكون السند قابلا ً للتنفيذ و هو أمر يتقرر أيضاً على ضوء قانون البلد الذي حرر فيه السند، و أخيراً في نقطة التقاء بين الحكم الأجنبي و السند الرسمي يجب ألا يخالف محتوى هذا الأخير القوانين الجزائرية و النظام العام و الآداب العامة في الجزائر.
المطلب الثاني: إجراءات تنفيذ الحكم الأجنبي.
طلب التنفيذ يكون عن طريق رفع دعوى أمام الجهة القضائية المختصة،و هو ما يفترض تكوين طالب التنفيذ لملف يشتمل على جميع الوثائق التي من شأنها أن تؤدي إلى قبول طلبه،و هو شيء إذا تم رتب بعض الآثار.
الفرع الأول: الوثائق الخاصة بطلب التنفيذ.
لا نجد في قانون الإجراءات المدنية و الإدارية الجزائري بياناً للوثائق التي يلتزم طالب التنفيذ بتقديمها أمام الجهة القضائية المختصة،لكن بالرجوع إلى طبيعة الدعوى التي تفترض وجود حكم أجنبي و بالنظر للشروط التي تطلبها القانون الجزائري من أجل الأمر بالتنفيذ،و بالاستئناس بالاتفاقيات السارية المفعول في الجزائر،بالرجوع لكل هذا يمكن التكلم عن حدٍ أدنى من الوثائق هي تلك التي تهدف إلى إثبات وجود الحكم الأجنبي المطلوب تنفيذه،و هو ما يعني وجوب تقديم صورة رسمية للحكم طبق الأصل.
كما يجب أيضاً تقديم وثائق يكون الهدف منها التأكد من توافر شروط التنفيذ،و يترتب عن هذا أن طالب التنفيذ ملزم بتقديم نسخة تنفيذية للحكم لإثبات أن هذا الأخير هو قابل للتنفيذ،و يلتزم أيضاً بإثبات أن الإجراءات كانت سليمة و تم فيها احترام حقوق الدفاع و هو ما يتم عن طريق تقديم محضر تبليغ الحكم المطلوب تنفيذه أو أي وثيقة يمكن أن تحل محلها،و التي من شأنها أن تثبت أن المحكوم ضده قد تم تبليغه بالحكم،و أن إجراءات التبليغ تم احترامها،كما أنه يبدو ضرورياً تقديم صورة طبق الأصل لورقة التكليف بالحضور و ذلك متى تم الحكم غيايباً.
و كما أشرنا من قبل هذه الوثائق تشكل الحد الأدنى لما يجب تقديمه أمام القضاء الجزائري في دعوى الأمر بالتنفيذ مما لا يمنع هذا الأخير من اشتراط أي وثيقة أخرى يعتبرها ضرورية،كما نشير أيضاً إلى ضرورة تقديم نسخ مترجمة للوثائق المبينة أعلاه في كل مرة يكون فيها الحكم صادراً عن قضاء دولة الأحكام فيها غير محررة باللغة الرسمية التي تصدر بها الأحكام بالجزائر.
الفرع الثاني: الجهة المختصة بدعوى طلب التنفيذ و الإجراءات المتبعة.
طلب التنفيذ أو ما يسميه المشرع بطلب منح الصيغة التنفيذية يتم عن طريق رفع دعوى قضائية كأي دعوى متعلقة بالمسائل المدنية،أي عن طريق تكليف بالحضور و مواجهة الأطراف،و يكون الحكم الصادر قابلاً للطعن بكافة الطرق المقررة في القانون الجزائري،الاختصاص المحلي في دعوى منح الصيغة التنفيذية يؤول طبق المادة 607 قانون الإجراءات المدنية و الإدارية إلى محكمة موطن المنفذ عليه،و ما ذلك في الحقيقية سوى تكريس للقاعدة العامة في هذا المجال،فالمنفذ عليه هنا سيكون بدون شك في مركز المدعى عليه،على أن ذات المادة أضافت معيار اختصاص آخر هو موطن محل التنفيذ،و هو ما يتطابق مع مكان تواجد الأموال،و تجدر الإشارة إلى أن المعيار ين المقررين هنا هما اختياريان لكن مع مراعاة ما قررته المادة 607 قانون الإجراءات المدنية و الإدارية دائماً التي إضافةً إلى الاختصاص المحلي وضعت أيضاً اختصاصاً مانعاً،إذ أن طلب التنفيذ لا يكون أمام كل محكمة يتحقق فيها المعياران المذكوران أعلاه،و إنما يجب أن يكون ذلك أمام المحكمة المنعقدة في مقر المجلس،الذي يوجد في دائرة اختصاصه موطن المنفذ عليه أو محل التنفيذ،و نشير في النهاية أن نصوص القانون الجزائري لم تحدد القسم المختص داخل المحكمة في النظر بطلب التنفيذ على أن منطق الأمور يفترض في هذه الحالة أن يرجع الاختصاص إلى القسم المماثل الذي أصدر الحكم الأجنبي فإذا لم يتحقق ذلك كان الاختصاص للقسم المدني.
المطلب الثالث: آثار الحكم الخاص بدعوى التنفيذ.
الآثار المترتبة عن حكم فصل في دعوى التنفيذ ستختلف بحسب ما إذا تم منح الصيغة التنفيذية للحكم الأجنبي أو تم رفض ذلك،في الحالة الأولى منح الصيغة التنفيذية يعني تقرير جميع الآثار التي يرتبها الحكم الأجنبي بمقتضى منطوقه دون أي تعديل،بحيث يصير قابلاً للتنفيذ في كل الإقليم الجزائري و يتم من أجل ذلك إتباع طرق التنفيذ المقررة في القانون الجزائري،حتى و إن لم تكن معروفة في القانون الأجنبي،أما في الحالة الثاني حيث يتم رفض طلب التنفيذ فإنه يكون للحكم القاضي بذلك حجية الشيء المقضي فيه بالنسبة للأطراف،و هو ما يمنع رفع دعوى تنفيذ من جديد،غير أن ذلك لا يمنع من إعادة رفع دعوى جديدة أمام القضاء الجزائري بخصوص نفس الموضوع الذي فصل فيه القضاء الأجنبي،فمثلاً يمكن في مجال العقود الدولية أن يرفع طالب التنفيذ الذي رُفض طلبه دعوى جديدة أمام القضاء الجزائري موضوعها هذه المرة الفصل في النزاع الخاص بالعقد على أمل أن يحصل على حكم قد يكون قريباً قدر الإمكان لما يكون قد حكم به القضاء الأجنبي من قبل.
الفصل الثاني: الجنسية.
نعني بكلمة الجنسية في اللغة العربية انتماء الشخص لجنس معين،أما في اللغة الفرنسية فيقصد بها انتماء الشخص لأمة معينة،أما من الناحية القانونية فالجنسية يقصد بها الرابطة القانونية و السياسية التي تصل الشخص بالدولة ،بمقتضاها يكتسب هذا الشخص حقوقاً و يتحمل التزامات،و تعتبر الجنسية فكرة حديثة نسبياً حيث ظهرت إلى الوجود بعد انهيار النظام الإقطاعي و انتشار فكرة القوميات،و تجدر الإشارة إلى أن الشريعة الإسلامية لا تعترف بفكرة الجنسية كمعيار للتفرقة بين المواطنين و الأجانب،و إنما المعيار لديها هو الدين،ففقهاء الشريعة يقسمون العالم إلى دارين:دار الحرب، و هي الأقاليم التي لا تخضع لحكم المسلمين و لا تدين بالإسلام،و دار الإسلام،و هي الأقاليم التي تخضع لسلطان المسلمين و تقام فيها شعائر الإسلام،و تبعاً لهذا التقسيم فإنه يكتسب صفة المواطن الشخص الذي يدين بالإسلام أما غير المسلم الذي يقيم في دار الإسلام فيكتسب صفة الأجنبي.
المبحث الأول: أركان الجنسية.
للجنسية ثلاثة أركان هي: الدولة،الفرد و العلاقة أو الرابطة بين هذه الدولة و الفرد.
المطلب الأول: الدولة المانحة للجنسية.
الأصل أنه لا يحق إلا للدول وحدها أن تمنح الجنسية،و المقصود هنا بالدولة الشخص المعنوي المعترف به وفقاً لأحكام القانون الدولي العام.
على أنه لا يشترط في الدولة أن تكون كاملة السيادة بل يمكنها أن تمنح الجنسية و إن كانت ناقصة السيادة كالدول التي كانت تحت الحماية و الانتداب،فإن بالنسبة للدول المركبة فإنه لا يحق إلا للدولة الاتحادية أن تمنح جنسيتها أما الدويلات الأخرى المكونة للاتحاد فليس لها هذا الحق كونها لا تعتبر دولاً وفقاً لأحكام القانون الدولي العام،و طالما أن منح الجنسية يقتصر فقط على الدول وحدها فإن ذلك يعني أن باقي أشخاص القانون الدولي العام من غير الدول ليس لهم هذا الحق كالمنظمات الدولية و الإقليمية.
المطلب الثاني: الشخص الحاصل على الجنسية.
إن الشخص بمجرد ميلاده تثبت له الشخصية القانونية و تثبت له معها أيضاً الجنسية،و تختلف الدول في منح الجنسية للأشخاص بين آخذ بمبدأ الإقليم و معتمد على مبدأ الدم أو النسب،على أنه إذا كانت جنسية الشخص الطبيعي لا تثير إشكالاً فالأمر خلاف ذلك بالنسبة للشخص المعنوي،فبالنسبة للشخص الطبيعي عادةً ما يتوفر لديه عنصر الولاء للدولة التي يحمل جنسيتها بحيث يتوفر لديه عنصر الانتماء لشعب معين و هذه مسألة لا يمكن تصورها بالنسبة للشخص المعنوي،و مع ذلك تذهب جميع القوانين إلى إخضاع الأشخاص المعنوية و بالضبط الشركات التجارية إلى قوانين دولة معينة حيث يسهل إيجاد النظام القانوني المطبق على هذه الشركات،و بالتالي فإن الحديث عن جنسية الشركات إنما يقصد به في الحقيقة النظام القانوني الذي يمكن أن تخضع له هذه الشركة،و لا يطرح بالنسبة للشركات الوطنية أي إشكال فهي تخضع لقوانين دولتها،إنما المشكل يطرح بالنسبة للشركات التي لديها فروع و تمارس نشاطاتها في دول متعددة،و هي ما يعرف بالشركات متعددة الجنسيات إذ يصعب إيجاد نظام قانوني تخضع له؛
و يطرح حينها التساؤل: كيف يمكن تحديد جنسية هذه الشركات؟
اختلفت الآراء و الاتجاهات في هذا المجال و ظهرت عدة معايير حول تحديد جنسية الشركات:
1-معيار جنسية الشركاء: وفق هذا الاتجاه جنسية الشركة تتحدد بالنظر إلى جنسية أغلب الشركاء،فمثلاً شركة أغلب شركائها جزائريون تعتبر شركة جزائرية بغض النظر عن أي معيار آخر،غير أن مثل هذا المعيار تم انتقاده فمن جهة قد لا تتوافر أي أغلبية في الشركة،و من جهة أخرى فإن تحديد جنسية الشركة بجنسية أغلبية الشركاء يؤدي في النهاية إلى تغيير جنسية الشركة في كل مرة تنتقل فيها الحصص،و هو ما يؤدي إلى انعدام الاستقرار في المعاملات؛
2-معيار مكان ممارسة النشاط: وفق هذا المعيار جنسية الشركة تتحدد بالمكان الذي تمارس فيه نشاطها،و عليه تعتبر شركة جزائرية مثلاً متى كانت تمارس نشاطها داخل حدود الإقليم الجزائري دون اعتبار لأي معيار آخر،غير أن المعيب على هذا المعيار أنه لا يعطي حلاً في الحالة التي تمارس فيها الشركة نشاطها في دول متعددة،و هذا هو حال الشركات متعددة الجنسيات؛
3-معيار مقر الإدارة: تتحدد وفق هذا المعيار جنسية الشركة بالنظر إلى مقر إدارة الشركة،و يعرف مقر الإدارة بأنه المكان الذي يتم فيه إعداد و مناقشة العقود و الصفقات الخاصة بنشاط الشركة، و كذلك المكان الذي تتواجد فيه الهيئات القانونية من مسيرين و جمعيات عامة،غير أن هذا المعيار يثير بعض الإشكالات من الناحية القانونية،فمن جهة قد يتفق الشركاء على وضع مقر إدارتهم في دولة ليس لها أي علاقة لا بنشاط الشركة و لا بجنسية الشركاء و ذلك فقط ليستفيدوا من بعض الامتيازات القانونية،و من جهة أخرى فقد تتعدد الهيئات الإدارية لشركة ما،و تتوزع عبر دول مختلفة فيصعب تحديد المقر الرئيسي للإدارة و هنا تظهر أهمية وضع معيار محدد لمفهوم مقر الإدارة،و هذا ما فعله القضاء الفرنسي حيث قضى بأن مقر الإدارة يتحدد بالمكان الذي تتواجد فيه الإدارة العليا و تمارس فيه الرقابة على الشركة،و تتخذ فيه القرارات النهائية؛
4-معيار إجراءات تأسيس الشركة: هذا ما يأخذ به القانون الانجليزي،إذ تعتبر الشركة انجليزية إذا اتخذت إجراءات تأسيسها و تكوينها في انجلترا حتى و لو كان مقر إدارتها متواجداً بالخارج.
هذه هي أهم المعايير التي قيلت بخصوص جنسية الشركات،و لنا أن نتساءل ما موقف المشرع الجزائري؟
لم يرد في قانون الجنسية أي نص يتناول جنسية الشخص المعنوي بصفة عامة و جنسية الشركات بصفة خاصة،غير أن المشرع أورد نصوص متفرعة تتكلم عن النظام القانوني الذي تخضع له الشركات،هذه النصوص هي: المادة 10 فقرة 3 و المادة 50 من القانون المدني،و كذا المادة 547 من القانون التجاري،و يظهر من هذه المواد أن المشرع الجزائري أخذ بمعيارين:
المعيار الأول: مقر إدارة الشركة: و هو ما يفهم من المادة 50 فقرة 5 من القانون المدني التي تقضي بوجوب أن يكون لكل شخص اعتباري موطن،و يتحدد موطنه بالمكان الذي يوجد فيه مركز إدارته، و عليه فكل شركة مقر إدارتها في الجزائر تعتبر جزائرية و تخضع بالتالي للقوانين الجزائرية،بغض النظر عن جنسية شركائها أو مكان ممارسة النشاط؛
المعيار الثاني:مكان ممارسة النشاط: و هو معيار يعتمد في الحالة التي لا يكون فيها للشركة مقر إدارة في الجزائر غير أنها تمارس نشاطها بها،ففي هذه الحالة تخضع هذه الشركة للقوانين الجزائرية،و هو ما يستفاد من الفقرة 3 للمادة 10 من القانون المدني و التي تقضي بأن الأشخاص الاعتبارية الأجنبية من شركات و جمعيات و مؤسسات و غيرها التي تمارس نشاطها بالجزائر تخضع للقانون الجزائري.
المطلب الثالث: الرابطة بين الشخص و الدولة.
لقد انقسمت آراء الفقهاء حول تحديد طبيعة العلاقة التي تربط الفرد بالدولة و التي بمقتضاها يحصل على الجنسية،إذ منهم من تكلم عن علاقة تعاقدية في حين ذهب البعض الآخر إلى التكلم عن العلاقة التنظيمية أو اللائحية.
الفرع الأول: النظرية التعاقدية.
حسب أنصار هذه النظرية فإن الجنسية هي علاقة تعاقدية بين الفرد و الدولة،يترتب عنها التزامات متبادلة بين الأطراف،و يجد هذا الاتجاه أساسه في نظرية العقد الاجتماعي،و طالما أن العلاقة هي تعاقدية فهذا يعني وجوب توافر إيجاب و قبول،و يظهر إيجاب الدولة في وضعها للشروط اللازمة للحصول على جنسيتها و اكتسابها،أما قبول الفرد فيظهر بإعلان الشخص عن رغبته في الحصول على الجنسية،هذا الإعلان قد يكون صراحة و ذلك عند تقديمه طلب التجنس،كما قد يكون ضمنياً و ذلك في الحالة التي يحصل فيها على الجنسية بمجرد ميلاده فيحتفظ بها و لا يقوم بتغييرها.
غير أنه تم انتقاد هذه النظرية من جانبين: فمن جهة كل عقد يفترض وجود أهلية التعاقد،إن هذه الأهلية يمكن تصورها في حالة الجنسية المكتسبة،إذ عادة ما تشترط القوانين من طالب التجنس أن يكون راشداً،غير أنه من الصعب أن نتكلم عن أهلية عندما يتعلق الأمر بالجنسية الأصلية،فهذه تثبت للشخص بمجرد ميلاده،أي تثبت له و هو عديم الأهلية فكيف يمكن أن نتكلم عن عقد في مثل هذه الحالة،هذا من جهة،من جهة أخرى ففي مجال التجنس قد تتوفر في الشخص جميع الشروط لاكتساب الجنسية و مع ذلك يحق للدولة رفض طلبه انطلاقاً من سيادتها الكاملة في هذا المجال،و هذا ما يتنافى و المبادئ العامة في مجال العقود.
الفرع الثاني: التنظيمية أو اللائحية.
هذا هو الاتجاه الحديث و الغالب حيث يرى أنصاره أن الجنسية عبارة عن رابطة لائحية أو تنظيمية، و يقصد بذلك أن الدولة تقوم بكل حرية و بمقتضى سيادتها بوضع نظام قانوني تحدد فيه كل ما يتعلق بالجنسية،و ذلك ببيان كيفية الحصول على جنسيتها و طرق اكتسابها و أيضاً حالات التجريد منها و سحبها،و يقتصر دور الفرد في الخضوع لتلك الأحكام فقط دون أن يكون له الحق في مناقشتها أو تعديلها،على أنه إذا كان الأصل أن للدولة الحرية التامة في مجال الجنسية فإن العمل الدولي قد استقر على وضع بعض المبادئ تعتبر في حقيقتها قيوداً على هذه الحرية،إن هذه المبادئ نستخلصها بصفة خاصة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 و اتفاقية لاهاي للجنسية لسنة 1930،فتنص المادة 15 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ما يلي "إن لكل شخص الحق في جنسية واحدة و لا يجوز حرمانه من حقه في تغييرها كما لا يجوز تجريده منها بطريقة تحكمية".
و جاء في ديباجة اتفاقية لاهاي "إن المثل الأعلى الذي يجب أن تسعى الإنسانية لتحقيقه هو إلغاء جميع حالات انعدام الجنسية،و حالات ازدواجها"،من خلال هاتين المادتين يمكن استخلاص ثلاث مبادئ أساسية:
المبدأ الأول: هو أن كل دولة و هي بصدد وضع قوانين للجنسية عليها أن تعمل على أن يكون لكل شخص الحق في الحصول على الجنسية،و ذلك للقضاء على حالات انعدام الجنسية؛
المبدأ الثاني: تقرير حق كل شخص في تغيير جنسيته؛
المبدأ الثالث: وجوب أن تمتنع الدول عن وضع قوانين تسمح بتجريد الأفراد من الجنسية بصفة تحكمية.
المبحث الثاني: ثبوت الجنسية و فقدانها.
الأصل أن لكل شخص الحق في أن يتمتع بجنسية معينة و إن كانت تختلف طرق الحصول على الجنسية و اكتسابها،على أنه مثلما تثبت للشخص جنسية معينة فإنه يمكن له أيضاً بالمقابل أن يفقد هذه الجنسية لأسباب و شروط تختلف من دولة لأخرى.
المطلب الأول: ثبوت الجنسية.
تثبت الجنسية بطريقتين: الأولى هي ثبوتها بمجرد الميلاد،و هذا ما يسمى بالجنسية الأصلية،و الطريق الثاني هي ثبوت الجنسية بعد الميلاد،و تعتبر عندها بمثابة جنسية لاحقة أو طارئة و تسمى بالجنسية المكتسبة.
الفرع الأول: الجنسية الأصلية.
الجنسية الأصلية هي التي تثبت للشخص بمجرد الميلاد و تكون كذلك حتى و لو تأخر إثباتها و يدعى الشخص المتمتع بها بالأصيل،و تتحدد الجنسية الأصلية وفق معايير للدولة اختيار أي منها وفق معطيات خاصة بها.
أولاً: المعايير المعتمدة بخصوص منح الجنسية الأصلية.
تعرف القوانين طريقتين لثبوت هذه الجنسية،فهي تثبت إما على أساس حق الدم،و يسمى أيضاً النسب،و إما على أساس حق الإقليم.
أ)-الجنسية الأصلية المؤسسة على حق الدم: يقوم هذا الأساس على مراعاة نسب الشخص و انتمائه العائلي،و انطلاقاً من ذلك فإن الشخص سيحصل على جنسية أبيه أو أمه بحسب الأحوال،بغض النظر عن مكان ميلاده،و يبرر أنصار هذا المبدأ موقفهم بعدة حجج أهمها:
-إن إعطاء الجنسية على أساس رابطة الدم من شأنه أن يحافظ على كيان المجتمع و يقوي شعور انتماء الأفراد لهذا المجتمع فيظلون مرتبطين به و ينشرون ثقافة دولتهم و حضارتها أينما وجدوا و حيثما هاجروا؛
-من شأن اعتماد رابطة الدم و إعطاء جنسية الدولة على المنحدرين من دماء أبنائها أن يمنع اندماج عناصر غريبة في تلك الدولة،و يمنع بالتالي تحولها إلى خليط من الأجناس.
ب)-الجنسية الأصلية المؤسسة على حق الإقليم.
يقصد برابطة الإقليم إعطاء جنسية الدولة لكل من يولد فوق إقليمها بغض النظر عن جنسية أبيه أو أمه،و يستند أنصار هذا الاتجاه إلى الحجج الآتية:
-إن الشخص يتأثر بوسطه الاجتماعي أكثر من انتمائه لوسطه العائلي؛
-إن الأخذ برابطة الإقليم من شأنه أن يصهر جميع الأفراد في مجتمع واحد،فيمنع ذلك من تكوين حالات قد تشكل خطراً على هذا المجتمع.
و الواقع أن الأخذ بهذا المعيار أو ذاك تبقى مسألة نسبية و يبقى للدولة الحرية التامة في اعتماد أي منها بالنظر إلى ظروفها،فالدول المصدرة للسكان من مصلحتها اعتماد رابطة الدم حتى يظل أبناؤها مرتبطين بها و محتفظين دائماً بشعور الانتماء إلى تلك الدولة أينما ذهبوا و حيثما هاجروا،أما الدول المستوردة للسكان فلا شك أن مصلحتها أن تعتمد رابطة الإقليم حتى تتمكن من إدماج جميع الأفراد المتواجدين فوق ترابها،فتقل بالتالي نسبة الأجانب بها،و الواقع أن أغلب دول العالم تميل إلى الجمع بين المبدأين من خلال جعل أحدهما الأصل،و الآخر الاستثناء.
ثانياً: الجنسية الأصلية الجزائرية.
هل يأخذ المشرع الجزائري برابطة الدم أو الإقليم للحصول على الجنسية الأصلية؟
قبل الإجابة على هذا السؤال نشير في البداية إلى أهم القوانين التي عرفتها الجزائر و التي تنظم موضوع الجنسية:
أول قانون: كان بتاريخ 7 مارس 1963 ،و وُصف هذا القانون بأنه انتقالي،و كانت أهم المسائل التي ركز على تنظيمها مسألتان رئيسيتان،الأولى هي تحديد من هو الجزائري،حيث تنص المادة 34 منه بأن الجنسية الجزائرية تثبت للشخص الذي يثبت أن له أصلين ذكرين من جهة الأب مولودين بالجزائر و يدينان بالإسلام،أما المسألة الثانية فانصبت على تحديد مصير فرنسيي الجزائر،و إن كان الوضع القانوني لهؤلاء قد تم تحديده سلفاً في اتفاقيات "إيفيان" بتاريخ 18 مارس 1962 حيث قضت هذه الاتفاقية بإعطائهم الحق في الاختيار بين الجنسية الجزائرية و يعتبرون بالتالي مواطنين جزائريين و تسقط عنهم تلقائياً الجنسية الفرنسية،و بين احتفاظهم دائماً بهذه الجنسية فيعتبرون بمثابة أجانب مقيمين بالجزائر و يخضعون للأحكام الخاصة بمعاملة الأجانب.
القانون الثاني: المنظم للجنسية هو أمر 15 ديسمبر 1970 الذي ألغى صراحة في المادة 41 منه قانون 1963،و يعتبر هو الساري المفعول لحد الساعة،و قد تم تعديله بمقتضى الأمر 05-01 الصادر بتاريخ 27 فبراير 2005،و نطرح التساؤل هنا من جديد، على أي أساس تمنح الجنسية الجزائرية الأصلية؟
لقد اعتمد المشرع الجزائري سواء في القانون القديم أو في أمر 1970 المعدل و المتمم على رابطة الدم كمبدأ عام،و على رابطة الإقليم كاستثناء.
أ-الجنسية الجزائرية المؤسسة على رابطة الدم.
تنص المادة 6 من قانون الجنسية على أنه "يعتبر جزائرياً الولد المولود من أب جزائري أو أم جزائرية"،يظهر من هذه المادة أنه متى كان أحد الوالدين جزائرياً حصل الطفل على الجنسية الجزائرية أينما كان مكان ولادته سواء كان داخل الجزائر أو خارجها،و يستوي أيضاً أن يكون أحد أبويه ذو جنسية أصلية أو مكتسبة،فما يهم هو أن يكون ذو جنسية جزائرية أثناء لحظة الميلاد،إن إعطاء الطفل المولود من أب جزائري الجنسية الجزائرية حكم كان معمولاً به في الجزائر في ظل قانوني 1963 و 1970 ،غير أن الشيء الذي أضافه التعديل هو حصول الطفل على الجنسية الجزائرية أيضاً متى كانت أمه جزائرية بغض النظر عن جنسية زوجها،و هذا حكم لم يكن معروفاً من قبل،ففي ظل أمر 1970 الطفل المولود من أم جزائرية و أب أجنبي فلم يكن يحصل على الجنسية الجزائرية،بمعنى آخر رابطة الدم التي كانت معتمدة هي من جهة الأب فقط دون الأم،و لم يكن الطفل يحصل على جنسية أمه الجزائرية إلا في حالتين:
الحالة الأولى: عندما تكون الأم جزائرية و الأب مجهولاً؛
الحالة الثانية: إذا كانت الأم جزائرية و الأب عديم الجنسية.
أما بعد التعديل فقد ساوى المشرع الجزائري بين الأب و الأم.
ب-الجنسية الجزائرية المؤسسة على رابطة الإقليم.
إذا كان المبدأ عند المشرع هو رابطة الدم أو النسب فإنه حرصاً على القضاء على حالة انعدام الجنسية،فقد تم النص في المادة 7 قانون الجنسية على حالتين يحصل فيها الطفل على الجنسية الجزائرية بسبب ولادته فوق الإقليم الجزائري،و لقد عرفت المادة 5 من قانون الجنسية الإقليم الجزائري بأنه مجموع التراب الجزائري و المياه الإقليمية الجزائرية،و السفن و الطائرات الجزائرية،و يضيف الفقه أيضاً عربات السكك الحديدية،فمتى إذاً يحصل الطفل على الجنسية الجزائرية على أساس ميلاده فوق التراب الجزائري؛
طبق المادة 7 من قانون الجنسية سيكون ذلك في حالتين:
الحالة الأولى: الولد المولود في الجزائر من أبوين مجهولين فكل طفل حديث عهد بالولادة يحصل على الجنسية الجزائرية على أساس الإقليم بشرطين:
-أن يكون مجهول الأبوين؛
-أن يولد في الجزائر وفق ما حددته المادة 5 من قانون الجنسية؛
و لقد وضع القانون الجزائري قرينة بسيطة مفادها أن الطفل الحديث العهد بالولادة الذي عُثر عليه في الجزائر يعد مولوداً في الجزائر ما لم يثبت خلاف ذلك،
على أنه إذا كان المشرع يمنح الجنسية الجزائرية للطفل مجهول الأبوين بالشروط المبينة،فإنه نص بالمقابل في المادة 7 فقرة 2 على إمكانية أن يفقد هذا الطفل تلقائياً الجنسية الجزائرية بشروط:
1-أن يظهر خلال فترة قصره (أي قبل بلوغه 19 سنة) أحد والديه سواء الأب أو الأم،و يثبت انتسابه لهما؛
2-أن تكون جنسية الأب أو الأم الذي ينتسب إليهما القاصر أجنبية؛
3-أن يسمح قانون جنسية الأب أو الأم بأن يحصل ذلك القاصر على جنسيتهما،فمتى توفرت هذه الشروط مجتمعة فقد الطفل تلقائياً الجنسية الجزائرية بأثر رجعي،فيعتبر كأن لم يكن أبداً جزائرياً.
الحالة الثانية: و التي من خلالها يحصل الشخص على الجنسية الجزائرية على أساس الميلاد في الجزائر هي تلك المقررة في المادة 7 فقرة 2 قانون الجنسية،و هي حالة الولد المولود من أب مجهول و أم مسماة في شهادة ميلاده دون بيانات أخرى تمكن من إثبات جنسياتهما،و عليه يشترط في هذه الحالة حتى يحصل على الجنسية الجزائرية ثلاثة شروط:
1-أن يولد فوق الإقليم الجزائري؛
2-أن يكون الأب مجهولاً و يتحقق ذلك إما كون هذا الأب غير معروف أصلاً،أو كونه معروفاً و لكن ليس هناك زواج شرعي،أو يكون هناك زواج شرعي غير أنه يستحيل إثباته؛
3-في أن تكون أمه معروفة،غير أنها عديمة الجنسية أو أن لها جنسية معينة غير أنه يستحيل عليها إثباتها.
الفرع الثاني: الجنسية المكتسبة.
و تسمى أيضاً بالجنسية الطارئة أو اللاحقة و هي تلك الجنسية التي يكتسبها الشخص بعد ميلاده،و لاكتساب الجنسية أسباب متعددة يمكن حصرها،و بالرجوع إلى القوانين المقارنة نجد: الجنسية المكتسبة بحكم القانون،التجنس،الزواج المختلط،التبني و ضم الإقليم.
أما في القانون الجزائري فقد كان المقرر قبل التعديل هو اعتماد حالتين:أولاهما التجنس،و الثانية هو اكتساب الجنسية بفضل القانون و هي حالة لم يعد ما يبررها بعد تعديل قانون الجنسية فتم إلغاؤها،ذلك أنه و طبق المادة 9 من قانون الجنسية كان بإمكان الولد المولود في الجزائر من أم جزائرية و أب أجنبي أن يكتسب الجنسية الجزائرية بأن يعلن عن رغبته في ذلك إثنا عشرة شهراً (12) قبل بلوغه سن الرشد،و الذي كان محدداً حينها بواحد و عشرين (21) سنة.و يبدو من مقتضيات المادة 9 قانون الجنسية دائماً أن يقدم الطلب لوزير العدل،و لهذا الأخير إثنا عشرة شهراً (12) للبث في الطلب،فإذا انقضت دون رد اعتبر ذلك موافقة،و الحقيقة أن مثل هذا الإجراء يفرغ هذه الحالة من وصفها حالة لاكتساب الجنسية بحكم القانون،إذ للوزير أن يعترض فلا يحصل المعني على الجنسية، و على كلٍ ما ورد في المادة 9 لم يعد له لزوم بعد التعديل و بعد أن صار يحصل على الجنسية الأصلية كل من يولد من أب أو أم جزائرية،فكان إلغاء هذه المادة أمراً يفرضه منطق الأمور.
التجنس.
و يعرف التجنس بأنه تصرف من قِبل الدولة بمقتضاه تعطي جنسيتها لشخص أجنبي بعد تقديم هذا الأخير طلباً بذلك،و يتفق الفقه على أن التجنس منحة من الدولة للأجنبي الذي يطالب بالدخول في جنسيتها،فقد ترفض الجهة المختصة في الدولة طلب التجنس رغم توفر جميع الشروط في ذلك الأجنبي،و يسمى الشخص الذي يكتسب الجنسية عن طريق التجنس بالدخيل.
و تضع جميع الدول في قوانينها شروطاً تتطلب توفرها في من يطلب الدخول في جنسيتها،و إن كانت هذه الشروط تختلف من دولة لأخرى،كما أن هناك إجراءات معينة يجب على الشخص إتباعها،و هو بصدد تقديمه طلب التجنس، فإن تمت الموافقة أنتج ذلك التجنس آثاراً منها: الفردية و منها الجماعية.
أولاً: شروط التجنس.
تنفرد كل دولة بوضع الشروط التي تراها مناسبة من أجل إعطاء جنسيتها،و هذا يعني اختلاف هذه الشروط من دولة لأخرى،غير أنه مهما كان هذا الاختلاف،فإن كل التشريعات تشترك في شروط معينة،يجب على طالب التجنس أن يستوفيها،و هي تتمثل فيما يلي:
الإقامة.
حيث يجب على طالب التجنس أن يثبت إقامة قانونية،فوق إقليم الدولة لمدة معينة،و تختلف التشريعات في تحديد هذه المدة.
الصحة.
حيث تشترط جل التشريعات أن يكون طالب التجنس سليم الصحة،و تختلف القوانين هنا،فمنها من يشترط سلامة الصحة جسمياً أو عقلياً،و منها من يشترط أن يكون طالب التجنس سليم العقل فقط دون سلامة الجسد؛
حسن السيرة و السلوك،و إثبات الاندماج في المجتمع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و إذا رجعنا إلى القانون الجزائري فإننا نجده بدوره قد وضع شروطاً على طالب التجنس أن يستوفيها،و هي تختلف بحسب ما إذا كان هذا الأخير متزوج بمواطن جزائري أم لا؟
أ-شروط التجنس العادي (عدم وجود زواج مختلط).
يظهر من المادة 10 و 11 من قانون الجنسية،أن هناك مبدأ يرد عليه استثناء،المبدأ هو وجوب استيفاء طالب التجنس جميع الشروط المنصوص عليها قانوناً،الاستثناء هو الإعفاء من جميع هذه الشروط في حالات محددة:
1-المبدأ: استيفاء جميع الشروط المقررة.
جاء النص على هذه الشروط في المادة 10 من قانون الجنسية،و تتمثل فيما يلي:
-شرط الإقامة: حيث يشترط إقامة الشخص في الجزائر لمدة سبع (7) سنوات على الأقل،عند تقديمه الطلب،و الإقامة المقصودة هنا هي الإقامة القانونية و الشرعية،و إضافة إلى ذلك فإن الفقرة 2 من المادة 10 تشترط أن يكون طالب التجنس مقيماً في الجزائر أثناء توقيعه مرسوم التجنس.
-شرط الأهلية: إذ يشترط أن يكون طالب التجنس بالغاً لسن الرشد،و لقد حددت المادة 4 من قانون الجنسية،سن الرشد في مجال الجنسية بنصها "يقصد بمفهوم سن الرشد في هذا القانون سن الرشد المدني"،و هو ما يعني وجوب أن يكون طالب التجنس بالغ لـ19 سنة،و هذا بخلاف ما كان مقرراً قبل التعديل،إذ كانت المادة 4 تحدد سن الرشد بـ21 سنة.
-شرط حسن السيرة و السلوك،و عدم الحكم بعقوبة تخل بالشرف.
و لم يوضح المشرع الجزائري ما إذا كان يشترط في حكم الإدانة أن يكون صادراً من المحاكم الجزائرية فقط،أم يمكن الأخذ بعين الاعتبار أيضاً أحكام الإدانة الصادرة بالخارج،و مع ذلك يمكن القول و أمام عموم النص،أنه يمكن الأخذ بعين الاعتبار حتى أحكام الإدانة الصادرة عن المحاكم غير الجزائرية.
-شرط إثبات الوسائل الكافية للمعيشة.
-شرط سلامة الجسد و العقل.
-شرط إثبات الاندماج في المجتمع الجزائري.
و لم يبين المشرع الجزائري كيفية هذا الاندماج،بخلاف بعض التشريعات كالقانون الفرنسي الذي يشترط من طالب التجنس أن يكون على معرفة كافية باللغة الفرنسية و تاريخ فرنسا و ثقافتها، و القانون الأمريكي الذي يشترط على الشخص أن يكون على اطلاع بتاريخ الولايات المتحدة و نظامها السياسي.
هذه الشروط التي تطلبها المشرع الجزائري في المادة 10 من قانون الجنسية،و التي يجب توفرها في كل أجنبي يريد اكتساب الجنسية الجزائرية،على أنه يجب التذكير من جديد على أن التجنس هو منحة من قبل الدولة،و عليه فيمكن أن تتوفر في الشخص جميع الشروط،و مع ذلك يقابل طلبه بالرفض،و تجدر الإشارة إلى أن المشرع الجزائري كان يشترط شرط آخر،جاء ذكره في المادة 3 قبل التعديل،و هو وجوب أن يقدم طالب التجنس تصريحاً بتخليه عن جنسيته الأصلية،غير أنه تم إلغاء هذه المادة، و بالتالي ألغي هذا الشرط صراحة بعد التعديل.
ثانياً: الاستثناءات الواردة على شروط التجنس.
يقصد بالاستثناءات التي جاء النص عليها في المادة 11 قانون الجنسية،و التي إذا توفرت في الشخص اكتسب الجنسية الجزائري،دونما حاجة لأن يستوفي الشروط المنصوص عليها في المادة 10 قانون الجنسية،و هذه الحالات هي ثلاث:
الحالة الأولى: الأجنبي الذي قدم خدمات استثنائية للجزائر.
فمثل هذا الأجنبي يمكن أن تمنح له الجنسية الجزائرية،متى طلب ذلك،حتى و إن لم تتوفر فيه الشروط المقررة في المادة 10 من قانون الجنسية.
الحالة الثانية: الأجنبي الذي أصيب بعاهة أو مرض جراء عمل قام به،خدمةً للجزائر، أو لفائدتها.
و يلاحظ بخصوص هذه الحالة أنه قبل التعديل،الأجنبي المصاب بعاهة أو مرض بسبب خدمة قدمها للجزائر لم يكن يعفى من جميع الشروط،و إنما فقط من شروط سلامة الجسد و العقل،غير أنه بعد التعديل صار هذا الأجنبي معفى من جميع الشروط شريطة أن يثبت أن مرضه أو عاهته كان نتيجة خدمة قدمها للجزائر.
الحالة الثالثة: الأجنبي الذي يكون في تجنسه فائدة استثنائية للجزائر.
و الذي إن توفرت يعفى فيها الأجنبي من شروط التجنس،و هي حالة الأجنبي الذي يكون في تجنسه فائدة استثنائية للجزائر.
هذه الحالات الثلاث التي تشكل استثناءاً عن القاعدة العامة،حيث متى توفرت كان بالإمكان منح الأجنبي متى قدم طلب التجنس الجنسية الجزائرية و لو لم يتوفر فيه أي شرط من الشروط المقررة قانوناً،بل إن المشرع الجزائري أعطى الحق لهذا الأجنبي في الحصول على الجنسية الجزائرية وفق أحكام المادة 11 حتى بعد وفاته،حيث يمكن لزوجته و أبنائه أن يقدموا طلب تجنسه،و ذلك في نفس الوقت الذي يطلبون فيه تجنسهم،هذا هو المقرر في المادة 11 فقرة 3 من قانون الجنسية الجزائرية.
ب-شروط التجنس القائم على الزواج المختلط.
الزواج المختلط هو الذي تختلف فيه جنسية الزوجين،هذا الاختلاف قد يكون عند إبرام عقد الزواج،كما قد يكون لاحقاً له،و هذا في الحالة التي تكون فيها جنسية الزوجين واحدة،ثم يقوم أحدهما بعد ذلك بتغيير جنسيته،و هذه حالة تندرج ضمن آثار التجنس،و لقد كان قانون الجنسية الجزائري قبل تعديله لا ينص على تأثير الزواج المختلط على اكتساب الجنسية الجزائرية،مما كان يعني أنه إضافة إلى أن الزوجة لا تحصل تلقائياً على جنسية جزائرية،و إنه كان عليها إذا أرادت هذه الجنسية أن تتقدم بطلب تجنس مع عدم إعطائها أي امتياز،بحيث كان يجب أن تستوفي كل الشروط المذكورة في المادة 10 قانون الجنسية،و لا يشفع لها إطلاقاً زواجها بجزائري،مثل هذا التشدد تم التخفيف منه بعد التعديل،إذ مع بقاء المبدأ هو عدم حصول الزوجة تلقائياً على الجنسية الجزائرية لزواجها بجزائري،فإن المشرع بالمقابل سمح لها بالمطالبة بالحصول على هذه الجنسية و ذلك عن طريق تقديمها لطلب التجنس،غير أن هذه المرة لم يتم اشتراط استيفاء جميع الشروط،و إنما تم التخفيف منها و إعطائها بعض الشروط فقط،و إعطائها بعض الأثر،و هذا ما قررته المادة 9 مكرر قانون الجنسية،و جاء فيها أنه "يمكن اكتساب الجنسية الجزائرية بموجب مرسوم متى توفرت الشروط الآتية:
-أن يكون الزواج قانونياً،و قائماً فعلياً،منذ ثلاث (3) سنوات على الأقل عند تقديم طلب التجنس؛
-الإقامة المعتادة و المنتظمة بالجزائر لمدة عامين على الأقل؛
-التمتع بحسن السيرة و السلوك؛
-إثبات الوسائل الكافية للمعيشة؛
-يمكن ألا تؤخذ بعين الاعتبار العقوبة الصادرة بالخارج.".
ما هي الأمور التي يمكن استخلاصها من هذه المادة؟
أولاً: أن المشرع الجزائري لا يرتب تلقائياً الجنسية الجزائرية عن طريق الزواج المختلط،و إنما يشترط لذلك تقديم طلب التجنس؛
ثانياً: المشرع الجزائري يشترط في طالب التجنس،شروطاً تختلف عن الشروط المنصوص عليها في المادة 10 قانون الجنسية،و تتمثل فيما يلي:
1-أن يكون الزواج قانونياً: أي يتم مستوفياً لجميع الشروط الموضوعية،و إذا ربطنا هذا الشرط بما هو مقرر في قواعد التنازع،و بالضبط المادة 13 قانون مدني،و التي تقضي بتطبيق القانون الجزائري وحده في مجال انعقاد الزواج متى كان أحد الزوجين جزائريين،فإن ذلك يعني أن تحديد ما إذا كان الزواج قانونياً أم لا يتم على ضوء قانون الأسرة الجزائري؛
2-أن يكون الزواج قائماً فعلياً: لمدة ثلاث (3) سنوات على الأقل من تاريخ تقديم طلب التجنس؛
3-أن يثبت طالب التجنس على أساس الزواج إقامة معتادة و منتظمة بالجزائر لمدة سنتين (2)،على الأقل:و هذا بخلاف طالب التجنس العادي الذي تقضي المادة 10 قانون الجنسية،بأن يثبت إقامة لمدة سبع (7) سنوات على الأقل؛
4-التمتع بحسن السيرة و السلوك:و يمكن هنا ألا تؤخذ بعين الاعتبار أحكام الإدانة الصادرة بالخارج؛
5-إثبات الوسائل الكافية للمعيشة.
هذه الشروط التي تطلبها المشرع الجزائري،و إذا قمنا بمقارنتها مع تلك المقررة في المادة 10 من قانون الجنسية،فنجد أن المشرع قد أسقط بالنسبة لطالب التجنس عن طريق الزواج شرطين:هما شرط سلامة الجسد و العقل،و شرط الاندماج،و خفف من مدة الإقامة فجعلها سنتين بدل سبع (7) سنوات.
ثالثا: إن طلب التجنس على أساس الزواج،و بالتالي الاستفادة من الأحكام المنصوص عليها في المادة 9 مكرر قانون الجنسية،لا يقتصر فقط على الأجنبية التي تتزوج بجزائري،بل تخص أيضاً الأجنبي الذي يتزوج بجزائرية،فلهذا الأخير أن يتقدم بدوره بطلب التجنس،و يستفيد من الشروط المخففة.
ثالثاً: إجراءات التجنس.
الأصل أن يتم التجنس عن طريق تقديم طلب من قِبل المعني بالأمر،و على السلطة المختصة أن تتخذ موقفاً محدداً من هذا القرار،فقد يقابل بالقبول كما قد يقابل بالرفض،أما السكوت فيفسر في أغلب التشريعات كرفض للطلب،في الجزائر السلطة المخولة بالنظر في مسائل الجنسية من تجنس و سحب و استرداد و تجريد هي وزارة العدل،مع وجود دور هام لرئيس الجمهورية في هذا المجال،على اعتبار أنه و إن كانت الطلبات تقدم إلى وزير العدل من أجل البث فيها،فإنه يبقى أن كل تجنس أو سحب أو استرداد أو تجريد من الجنسية،يكون بموجب مرسوم رئاسي.
تقديم التجنس إذاً يرفع إلى وزير العدل،و هذا ما تقرره المادة 25 من قانون الجنسية،و يكون لهذا الأخير السلطة التقديرية،فله أن يقبل الطلب متى تحقق من الشروط المطلوبة فيثبت التجنس حينها بمرسوم رئاسي ينشر في الجريدة الرسمية (المادة 12 و 29 قانون الجنسية)،و طبقاً لمقتضيات المادة 12 فقرة 2 من قانون الجنسية،بإمكان طالب التجنس أن يطلب عند تقديمه طلب التجنس تغيير اسمه و لقبه،و في هذه الحالة يقوم ضابط الحالة المدنية بتصحيح البيانات المتعلقة بالتجنس و تصحيح الأسماء و الألقاب على سجل الحالة المدنية بناءاً على أمر من النيابة العامة.
طلب التجنس قد يقابل أيضاً بعدم القبول أو الرفض و هما مصطلحان يستعملهم المشرع في المادة 26 قانون الجنسية،للدلالة على حالتين:
الحالة الأولى: عدم توفر الشروط القانونية في طلب التجنس،هذه الحالة يسميها المشرع عدم قبول الطلب،و هنا يتعين على وزير العدل أن يبلغ المعني بالأمر بموجب قرار معلل؛
الحالة الثانية: هي توفر جميع الشروط،و مع ذلك و لأسباب معينة لا تمنح له الجنسية الجزائرية، هذه الحالة يعبر عنها المشرع الجزائري بالرفض،و هنا يجب تبليغ المعني بموجب قرار دونما حاجة لأن يكون معلل؛
السكوت: و لقد كان قانون الجنسية قبل تعديله بنص المادة 27 منه ينص على إعطاء مهلة إثنا عشر (12) شهراً لوزير العدل لينظر في طلب التجنس،فإذا انقضت هذه المهلة اعتبر ذلك بمثابة رفض،غير أنه بعد التعديل لا نجد أي نص يحدد مهلة يتقيد بها وزير العدل،للرد على الطلب،إضافةً إلى أنه لم يتكلم عن حالة السكوت،هل يعتبر رفضاً أم قبولاً؟ غير أنه و بما أن التجنس يصدر بمرسوم رئاسي فإن المنطق يقضي بأن عدم الرد هو بمثابة رفض.
رابعاً: آثار التجنس.
ينتج التجنس آثاراً فردية و جماعية.
أ-الآثار الفردية.
يقصد بها تلك الآثار التي تمس المتجنس نفسه،و المبدأ هو أنه بمجرد صدور مرسوم التجنس يصير الأجنبي مواطناً لتلك الدولة له ما للمواطنين من حقوق،و عليه ما عليهم من واجبات،غير أنه إذا كان هذا هو المبدأ فإن أغلب التشريعات مستقرة على وضع الأجنبي في فترة اختبار يحرم خلالها من ممارسة بعض الحقوق لفترة زمنية معينة،بل إن حقوقاً أخرى قد يمنع منها بصفة أبدية.
و إذا رجعنا إلى القانون الجزائري فإنه نجده قد نص على الآثار الفردية في المادة15 حيث قضت بأنه "يتمتع الشخص الذي يكتسب الجنسية الجزائرية بجميع الحقوق المتعلقة بالصفة الجزائرية ابتداءاً من تاريخ اكتسابها"،و لم يرد في قانون الجنسية ما يشير إلى حرمان المتجنس مؤقتاً أو بشكل أبدي من بعض الحقوق،غير أن ذلك لا يعني عدم وجود هذا الحرمان،حيث اهتمت قوانين أخرى متفرقة بذلك،و منها فيمنع مثلاً بصفة مؤبدة على المجنس أن يترشح للانتخابات الرئاسية و ذلك ما يفهم من المادة 73 من الدستور،كذلك من أمثلة المنع المؤقت،ما ورد في المادة 27 من القانون الأساسي للقضاء التي تمنع على المتجنسين الالتحاق بمنصب القضاة لمدة عشر (10) سنوات.
ب-الآثار الجماعية للتجنس.
يقصد بالآثار الجماعية أثر تجنس الشخص على جنسية زوجه و أبنائه،و التساؤل المطروح هنا: هل تجنس أحد الزوجين يؤثر على جنسية الزوج الآخر؟ و هل تجنس أحد الوالدين يؤثر على جنسية الأولاد؟
المستقر عليه في أغلب التشريعات هو أن تجنس الأب لا يؤثر على جنسية أولاده الراشدين،إذ يظلون محتفظين بجنسيتهم،أما بالنسبة للأبناء القصر فأغلب التشريعات تقضي بانصراف أثر التجنس إليهم،مع إعطائهم الحق،في التنازل عن هذه الجنسية خلال مدة معينة،أما بالنسبة للزوجة فإن التشريعات منقسمة بين من تقضي بانصراف أثر التجنس إليها تلقائياً،و بين من لا يرتب أي أثر فلا تحصل الزوجة بصفة تلقائية على الجنسية الجديدة لزوجها.
ما موقف المشرع الجزائري؟
جاء النص على الآثار الجماعية في المادة 17 من قانون الجنسية،و يظهر من خلالها أنه يتوجب التفرقة بين الأبناء القصر من جهة و الراشدين و الزوجة من جهة أخرى،في الحالة الأولى سيحصل الأبناء القصر تلقائياً على جنسية أبيهم (الجزائرية)،بمجرد تجنس والدهم حتى و إن لم يطالبوا بذلك،غير أنه طبقاً للمادة 17 فقرة 2 فإنه يسمح لهؤلاء الأولاد بالتنازل عن الجنسية الجزائرية شريطة أن يطالبوا بذلك خلال سنتين (2) من تاريخ بلوغهم سن الرشد أي بين 19 و 21 سنة،هذا عن الأبناء القصر أما بالنسبة للراشدين فإن المشرع الجزائري لم يورد أي نص يتعلق بهم،و هذا يعني أن أثر تجنس الأب لا ينصرف إليهم،و يسري هذا الحكم أيضاً بالنسبة للزوجة،إذ لم ينص المشرع الجزائري على أثر تجنس الزوج على جنسية زوجته،و هذا يعني أنها لن تحصل على الجنسية الجزائرية،بسبب تجنس زوجها.
المطلب الثاني: فقدان الجنسية.
فقدان الجنسية قد يكون إرادياً برغبة الشخص الصريحة أو الضمنية في التخلي عن جنسيته،كما قد يكون غير إرادي بحيث يفرض على الشخص و يظهر ذلك في حالتين: السحب و التجريد.
الفرع الأول: الفقد الإرادي للجنسية.
إن التكلم عن فقد إرادي يفترض أن هناك تنازل من قِبل الشخص عن جنسيته طواعية،و بناءاً على رغبته،و لقد حدد المشرع الجزائري الحالات التي يحق فيها للشخص القيام بهذا التنازل،و هي في حقيقتها شروط تتعلق بالفقد الإرادي،فإذا ما تم هذا الفقد رتب ذلك آثاراً أهمها بطبيعة الحال اعتبار الشخص أجنبياً،و مع ذلك يستطيع هذا الشخص وفقاً لمقتضيات القانون الجزائري أن يسترد جنسيته الجزائرية.
أولاً: حالات الفقدان الإرادي للجنسية الجزائرية.
هذه الحالات عددتها المادة 18 من قانون الجنسية،و تتمثل فيما يلي:
الحالة الأولى: الجزائري الذي اكتسب طواعية في الخارج جنسية دولة أجنبية:و عليه كل جزائري تجنس بجنسية دولة أجنبية،يمكن له تقديم طلب فقدان الجنسية الجزائرية،غير أنه يشترط من أجل ذلك أن يكون اكتسابه للجنسية الأجنبية طواعية،أي بإرادته لا أن تكون مفروضة عليه.
الحالة الثانية: الجزائري و لو كان قاصراً الذي له جنسية أجنبية أصلية:فمثلاً قد يولد شخص من أب جزائري و أم فرنسية فيحصل على الجنسيتين معاً،الجنسية الجزائرية طبقاً للمادة 6 من قانون الجنسية،و كذلك الجنسية الفرنسية طبقاً للمادة 18 فقرة 1 من القانون المدني الفرنسي،في مثل هذه الحالة و منعاً لازدواج الجنسية سمح المشرع الجزائري لهذا الشخص أن يقدم طلب التنازل عن الجنسية الجزائرية،و لم يشترط هنا أن يكون مقدم الطلب راشداً بل جاء النص صراحة على إمكانية أن يقدم الطلب حتى و لو كان الشخص قاصراً.
الحالة الثالثة: الجزائرية التي تتزوج بأجنبي:و تكتسب نتيجة زواجها الجنسية الأجنبية،و يشترط من أجل أن تفقد المرأة جنسيتها الجزائرية في هذه الحالة،شرطين أساسيين:
الشرط الأول: أن يكون الزواج صحيحاً،و يتم تقرير ذلك طبقاً لقانون الأسرة الجزائري كمبدأ عام،عملاً بمقتضيات المادة 13 من القانون المدني الجزائري.
الشرط الثاني: يتمثل في وجوب أن يثبت اكتساب الزوجة الجزائرية لجنسية زوجها عن طريق الزواج.
الحالة الرابعة: الأولاد القصر الذين حصلوا على الجنسية الجزائرية نتيجة تجنس أبيهم،إذ يمكن لهم المطالبة بالتخلي عن الجنسية الجزائرية،خلال سنتين من تاريخ بلوغهم سن الرشد،أي بين 19 و 21 سنة.
هذه هي إذن الحالات الواردة في المادة 18 قانون الجنسية،و التي تسمح للجزائري بأن يتنازل طواعية و بمحض إرادته عن الجنسية الجزائرية،و الملاحظ أنه في الحالات الثلاث الأولى لا يكفِ تقديم الطلب حتى يفقد الشخص جنسيته الجزائرية،و إنما عليه أن ينتظر صدور مرسوم يأذن له بالتخلي عن الجنسية الجزائرية الجزائرية،و لا يبدأ أثر فقدان هذه الجنسية إلا من تاريخ صدور هذا المرسوم،و هذا شرط لا نجده بخصوص الحالة الرابعة إذ هنا يبدأ أثر الفقدان من تاريخ تقديم الطلب بصفة قانونية لوزير العدل،هذا هو المقرر في المادة 20 من قانون الجنسية.
ثانياً: آثار الفقد الإرادي للجنسية.
متى فقد الشخص الجنسية الجزائرية بمقتضى الحالات الأربعة المحددة في المادة 18 قانون الجنسية،اعتبر ذلك الشخص بمثابة أجنبي،في نظر القانون الجزائري،و الأصل أن أثر هذا الفقدان لا يمتد إلى الزوجة و الأبناء الراشدين،فمتى كانت لديهم الجنسية الجزائرية،ظلوا محتفظين بها،و يطرح التساؤل بالنسبة للأبناء القصر؟ قبل التعديل كانت المادة 21 من قانون الجنسية تنص صراحة على امتداد أثر فقدان الجنسية الجزائرية إلى أولاد المعني بالأمر القصر،و إن كانت قد اشترطت لذلك شرطين: الشرط الأول: أن يكون أولائك القصر غير متزوجين،و الشرط الثاني: أن يكونوا مقيمين فعلاً مع والدهم،مثل هذا الحل تم استبعاده و تغييره جذرياً حيث قضت المادة 21 من قانون الجنسية صراحةً بعد التعديل بألا يمتد أثر فقدان الجنسية الجزائرية في الحالات المنصوص عليها في المادة 18 إلى الأولاد القصر.
ثالثاً: استرداد الجنسية الجزائرية.
يقصد بالاسترداد إمكانية الشخص الذي فقد جنسيته أن يستردها من جديد،و تختلف القوانين في هذا المجال،فمنها من يعطي حق الاسترداد فقط للأشخاص الذين فقدت منهم الجنسية الأصلية، و منها من يعدم هذا الحق ليستفيد من الاسترداد،سواء كانت الجنسية التي فقدها الشخص أصلية أم مكتسبة،و لقد نص المشرع الجزائري على استرداد الجنسية في المادة 14 من قانون الجنسية،حيث جاء فيها ما يلي "يمكن استرداد الجنسية الجزائرية بموجب مرسوم لكل شخص كان متمتعاً بها كجنسية أصلية و فقدها،و ذلك عن طريق تقديم طلب بعد 18 شهراً على الأقل من الإقامة المعتادة و المنتظمة في الجزائر.".
أ-شروط استرداد الجنسية.
يظهر من المادة 14 قانون الجنسية أنه يجب من أجل استرداد الجنسية الجزائرية توافر شرطين: الشرط الأول: يتعلق بصفة طالب الاسترداد؛الشرط الثاني: يخص مدة الإقامة،و عليه فيجب أولاً أن يكون الشخص قد تمتع بالجنسية الجزائرية الأصلية قبل أن يفقدها،و يدخل ضمن هذا المجال: الأشخاص المشار إليهم في المادة 18 قانون الجنسية السابق بيانها،و بالمقابل لا يمكن يقديم طلب استرداد شخص اكتسب الجنسية الجزائرية عن طريق التجنس،ثم سحبت منه،أو جُرد منها،أما بالنسبة لشرط الإقامة فإنه يجب أن يثبت الشخص إقامة عادية و منتظمة في الجزائر لمدة 18 شهراً على الأقل.
ب-إجراءات استرداد الجنسية الجزائرية.
يقدم طلب الاسترداد لوزير العدل مرفق بالوثائق المثبتة لتوافر الشروط القانونية،تبقى لهذا الأخير السلطة التقديرية فله رفض الطلب أو قبوله،و في هذه الحالة الأخيرة يصدر مرسوم باسترداد الجنسية الجزائرية،يتم نشره في الجريدة الرسمية.
ج-آثار استرداد الجنسية الجزائرية.
متى استرد الشخص جنسيته الجزائرية صار من جديد مواطناً جزائرياً،و يتمتع بكل حقوق المواطن دون أن يخضع لفترة اختبار،و يرى البعض أنه لا يمنع التمتع ببعض الحقوق بصفة أبدية أو مؤقتة كما هو حال المتجنس،و لا يمكن سحب جنسيته أو تجريده منها لأنه طبقاً للقانون الجزائري هذا الإجراء لا يمس سوى المتجنس،و لأنه طبقاً للقانون الجزائري أيضاً طلب الاسترداد لا يقدم إلا ممن كانت له جنسية أصلية و فقدها.
الفرع الثاني: الفقدان غير الإرادي للجنسية.
يشمل الفقدان غير الإرادي للجنسية صورتين: السحب و التجريد.
أولاً: سحب الجنسية.
يقصد بالسحب،نزع الجنسية من الشخص الذي اكتسبها عن طريق التجنس،و لقد جاء النص على سحب الجنسية الجزائرية في المادة 13 من قانون الجنسية،حيث بيّنت شروط السحب و إجراءاته:
أ-شروط سحب الجنسية الجزائرية.
هذه الشروط،تخص صفة الشخص محل السحب،و أسباب السحب ثم المدة القانونية الخاصة بالسحب،فبالنسبة للشرط الأول السحب إجراء يشمل فقط الشخص الذي حصل على الجنسية الجزائرية عن طريق التجنس،سواء كان عادياً أو عن طريق الزواج،و لا يمكن تطبيقه على من يتمتع بالجنسية الجزائرية الأصلية.
أما فيما يخص الشرط الثاني فإنه لا يمكن سحب الجنسية الجزائرية من المتجنس إلا في حالتين:
الحالة الأولى: إذا لم تتوفر فيه الشروط القانونية لاكتساب الجنسية الجزائرية،و يشمل المقرر في المادة 9 مكرر، 10، 11 من قانون الجنسية؛
الحالة الثانية: إذا استعمل الشخص وسائل الغش لاكتساب الجنسية كما لو قدم وثائق و مستندات مزورة.
و يبقى الشرط الثالث المتعلق بالمدة الزمنية،إذ يجب أن يتم السحب في خلال سنتين (2) من تاريخ صدور مرسوم التجنس،و يعتبر هذا الشرط كضمانة للمتجنس حتى لا يبق دائماً مهدداً بسحب جنسيته،فمتى انقضت مهلة السنتين لم يعد بالإمكان سحب الجنسية،حتى لو ثبت بعدها استعمال الشخص لوسائل الغش،أو أنه لم يكن يستوفي الشروط القانونية للتجنس.
ب-إجراءات سحب الجنسية الجزائرية.
تنص المادة 13 فقرة 2 من قانون الجنسية أنه "يتم سحب الجنسية بنفس الأشكال التي تم بها منح التجنس بعد إعلام المعني بالأمر بذلك قانوناً و منحه مهلة شهرين (2) لتقديم دفوعه"،و عليه يرجع لوزير العدل صلاحية النظر في مسألة السحب،و ذلك بعد إعلام المعني بالأمر قانوناً بأنه محل إجراء لسحب جنسيته الجزائرية،و لهذا الأخير مهلة شهرين (2) يبتدئ حسابها من تاريخ هذا الإعلان من أجل تقديم دفوعه،و يتم السحب بموجب مرسوم رئاسي يتم نشره في الجريدة الرسمية.
ثانياً: التجريد من الجنسية.
التجريد أو الإسقاط تناولته المواد من 22 إلى 24 من قانون الجنسية،حيث بيّنت شروطه، وإجراءاته و الآثار المترتبة عنه.
أ-شروط التجريد في القانون الجزائري.
يمكن إرجاع هذه الشروط بصفة عامة إلى ثلاث: شروط تتعلق بصفة الشخص محل التجريد، و شرط يتعلق بأسباب التجريد،و أخيراً شروط تتعلق بالمدة الزمنية.التي يجب أن يعلن فيها عن التجريد.
فبالنسبة للشرط الأول يظهر من المادة 22 قانون الجنسية أن التجريد لا يمس سوى المتجنس،و لا يمكن أن يشمل الأصيل،فمن يحمل الجنسية الجزائرية الأصلية لا يجرد منها أبداً مهما كانت جسامة الأفعال التي يرتكبها،بعض القوانين تسمح بالتجريد حتى ممن يملك جنسية أصلية.
أما بالنسبة للشرط الثاني فالأصل أنه لا يمكن تجريد الشخص دون وجود سبب جدي و إلا تحوّل إلى تجريد تحكمي.
و لقد نصت المادة 22 من قانون الجنسية على ثلاث حالات للتجريد:
الحالة الأولى: صدور حكم ضد شخص من أجل فعل يعد جناية أو جنحة،تمس بالمصالح الحيوية للجزائر؛
الحالة الثانية: أن يصدر حكم ضد المتجنس في الجزائر أو الخارج يقضي بعقوبة لأكثر من خمس (5) سنوات سجناً من أجل جناية،و عليه يشترط للتجريد وفق هذه الحالة أن يكون أولاً الفعل المرتكب عبارة عن جناية،و يكون القانون الجزائري هو المرجع في تكييف الفعل هل هو جناية أم لا،و يشترط ثانياً أن تكون العقوبة التي صدرت في حق الشخص هي أكثر من خمس (5) سنوات،كما أنه يسمح الأخذ بعين الاعتبار بالأحكام الصادرة بالخارج.
الحالة الثالثة: تظهر في قيام شخص لفائدة جهة أجنبية بأفعال تتنافى مع صفته كجزائري أو مضرة بمصالح الدولة الجزائرية.
و نشير هنا إلى أن المشرع لم يشترط في هذه الأعمال أن تكون موصوفة بجرائم،إذ قد يقوم الشخص بأعمال لا تعتبر جرائم غير أنه في نظر الحكومة أعمال تضر بمصلحة الجزائر أو تتنافى مع الصفة الجزائرية.
أما الشرط الثالث للتجريد و المتعلق بالمدة الزمنية،فمفاده أنه لا يمكن إعلان التجريد إلا خلال مدة معينة هي كما يلي:
1-يشترط أن ترتكب الأفعال الموجبة للتجريد خلال عشر (10) سنوات من اكتساب الجنسية الجزائرية،فإذا ما تم ارتكاب هذه الأفعال بعد مضي هذه المدة،لم يكن بالإمكان إعلان التجريد.
2-يشترط أن يعلن التجريد خلال خمس (5) سنوات،من تاريخ الأفعال الموجبة للتجريد.
ب-إجراءات التجريد من الجنسية.
نصت على هذه الإجراءات المادة 23 قانون الجنسية،و يظهر منها أن التجريد لا يكون إلا بعد إعطاء مهلة شهرين للمعني من أجل تقديم ملاحظاته،غير أنه يعاب على هذا الحكم أنه لم يحدد التاريخ الذي يبدأ من خلاله احتساب هذه المهلة،و يتم التجريد بموجب مرسوم يتم نشره في الجريدة الرسمية .
ج-آثار التجريد من الجنسية الجزائرية.
بمجرد صدور مرسوم التجريد يفقد المتجنس جنسيته الجزائرية،و يعتبر من ذلك التاريخ بمثابة أجنبي،هذا عن الآثار الفردية،أما بالنسبة للآثار الجماعية فقد تم النص عليها في المادة 24 من قانون الجنسية،و يظهر من خلالها أنه يجب التفرقة بين أثرين: أثر التجريد على جنسية أحد الزوجين،و أثر التجريد على الأولاد القصر:
الأثر الأول: أثر التجريد على جنسية الزوجة: تجريد الزوج من جنسيته لا يمتد أثره إلى الزوجة إذ تبقى محتفظة دائماً بجنسيتها الجزائرية رغم تجريد زوجها منها،و الحكم هذا ينطبق أيضاً في الحالة العكسية،و هذا ما يفهم من عبارة" لا يمتد التجريد من الجنسية إلى زوج المعني بالأمر"؛
الأثر الثاني: أثر التجريد على الأبناء القصر: فالمبدأ أن تجريد أبيهم أو أمهم لا يؤثر على جنسيتهم الجزائرية،إذ يحتفظون دائماً بها،غير أنه استثناءاً يمكن أن يمتد التجريد إلى الأبناء القصر في حالة واحدة،هي الحالة التي يشمل فيها التجريد الوالدين معاً،و حتى في هذه الحالة تجريدهم يبقى أمراً جوازياً و لا يقع بقوة القانون؛
و غني عن البيان أنه لا أثر للتجريد على الأبناء الراشدين،إذ يظل هؤلاء محتفظين بجنسيتهم الجزائرية رغم تجريد أبيهم أو أمهم أو كليهما معاً.
المطلب الثالث: الإثبات في مجال الجنسية و المنازعات الخاصة بها.
تختلف طرق إثبات الجنسية وفق القانون الجزائري بحسب الحالات،كما قد تحدث منازعات حول الجنسية،و هي المنازعات التي اهتمت نصوص قانون الجنسية الجزائري ببيان طرق النظر فيها و حلِّها.
الفرع الأول: الإثبات في مجال الجنسية.
الإثبات في مجال الجنسية قد يكون إما من خلال إثبات تمتع الشخص بالجنسية الجزائرية،و إما إثبات فقدانه لهذه الجنسية.
أولاً: إثبات التمتع بالجنسية الجزائرية.
الجنسية الجزائرية قد تكون أصلية كما قد تكون مكتسبة،و تختلف طريقة إثبات كل منها:
الحالة الأولى: يظهر من المادة 32 قانون الجنسية أن الإثبات يمكن أن يتم إما عن طريق النسب، و إما من خلال حيازة الحالة الظاهرة،و عليه يمكن لمن يدعي الجنسية الجزائرية الأصلية أن يثبتها بوجود أصلين ذكرين من جهة الأب أو الأم مولودين في الجزائر،و متمتعين بالشريعة الإسلامية،أما بالنسبة للولد المولود في الجزائر من أب مجهول و أم لا يمكن التأكد من جنسيتها،فتثبت الجنسية الجزائرية هنا عن طريق المعني بالأمر شهادة ميلاده،وشهادات تسلم له من قبل الهيئات المختصة تحرر لهذا الغرض.
إثبات الجنسية الأصلية يمكن أن يكون أيضاً بجميع الوسائل و بالأخص من خلال ما يسميه المشرع الجزائري حيازة الحالة الظاهرة،و يقصد بها مجموعة الوقائع العلنية المشهورة المجردة من كل التباس و التي من شأنها أن تثبت أن كلاً من المعني بالأمر أو أبويه كانوا يتصرفون كجزائريين،و كان يعترف لهم بهذه الصفة من قِبل الجميع،سلطات عمومية و أفراد.
الحالة الثانية: فيما يخص الحالة الثانية المتعلقة بالجنسية المكتسبة،و بما أن التجنس يثبت بمرسوم فإن إثبات الجنسية يتم طبق المادة 33 من قانون الجنسية،بنظير المرسوم،أي نسخة ثانية من مرسوم التجنس،و لقد تعرضت نفس المادة لحالة اكتساب الجنسية عن طريق المعاهدة فقضت بأن يكون إثبات الجنسية الجزائرية طبقاً لهذه المعاهدة.
و نشير أنه سواء تعلق الأمر بحالة الجنسية الجزائرية بعد تقديم الوثائق المثبتة لها،من قِبل وزير العدل أو سلطات مؤهلة لذلك،و هم في الواقع العملي قضاة المحاكم.
ثانياً: إثبات فقدان الجنسية الجزائرية.
سبق و أن أشرنا إلى أن الفقدان قد يكون إرادي كما قد يكون غير إرادي نتيجة سحب أو تجريد:
الحالة الأولى: اهتمت ببيانها المادة 18 من قانون الجنسية،و التي وضعت كما رأينا أربع صور يمكن فيها للجزائري أن يقدم طلب فقدان الجنسية الجزائرية،و كما رأينا أيضاً ثلاثة من هذه الصور،لا يبدأ أثر الفقدان فيها إلا من تاريخ صدور مرسوم يأذن بذلك،و منه يكون منطقياً أن يتم إثبات التخلي عن طريق نظير المرسوم الذي أذن للشخص بالتخلي عن الجنسية الجزائرية،و هذا ما قضت به المادة 35 فقرة 1 من قانون الجنسية،أما الصورة الرابعة المقررة في المادة 18 من قانون الجنسية فليس هناك مرسوم و إنما المقرر بخصوصها أن أثر فقدان الجنسية الجزائرية يبدأ من يوم ثبوت تاريخ الطلب المقدم إلى وزير العدل،و منه يكون إثبات الفقدان هنا وفق ما قررته المادة 35 فقرة 2 من قانون الجنسية عن طريق شهادة من وزير العدل تثبت أن التصريح بالتخلي قد وُقع عليه بصورة قانونية.
الحالة الثانية: أما فيما يخص السحب و التجريد و بما أن و بما أن هاتين الصورتين تتمان بموجب مرسوم فالمنطق يقضي بأن يكون إثباتهما عن طريق تقديم نسخة من هذا المرسوم،و بذلك قضت الفقرة 3 من المادة 35 قانون الجنسية،و رغم أن هذه الفقرة لا تتكلم سوى عن الإثبات في حالة التجريد فلا شيء يمنع من اعتمادها بخصوص السحب كونه هو أيضاً يتم بموجب مرسوم.
الفرع الثاني: منازعات الجنسية.
قد يعجز الشخص عن إثبات تمتعه بالجنسية الجزائرية أو إثبات عدم تمتعه بها وفق الوسائل المبينة سابقاً،في هذه الحالة يسمح القانون لهذا الشخص اللجوء إلى المحاكم الجزائرية أملاً في استصدار حكم يثبت ما يدعيه،و هذا ما تقرره المادة 36 من قانون الجنسية،و طبق المادة 37 من ذات القانون فإن المحاكم المختصة في النظر في منازعات الجنسية هي المحاكم العادية لا الإدارية،و مع ذلك قد يحدث أن تثار منازعات تتعلق بالجنسية عن طريق دفع أمام محاكم أخرى (إدارية أو جنائية)،في هذه الحالة طبق المادة 37 فقرة 3 قانون الجنسية،يمنع على هذه المحاكم النظر في هذا الدفع،و عليها أن تؤجل الفصل في النزاع إلى حين أن تفصل المحكمة المختصة محلياً في مسألة الجنسية،و يجب على الشخص الذي أثار الدفع أن يرفع دعواه خلال شهر واحد من تاريخ قرار التأجيل و إلا أُهمل دفعه،و تجدر الإشارة إلى أن النيابة العامة تعد طرفاً أصلياً في جميع القضايا و المنازعات المتعلقة بقضايا الجنسية،كما ألزمها المشرع في المادة 37 فقرة 5 قانون الجنسية بأن تطلب من وزارة الشؤون الخارجية متى اقتضى الأمر ذلك، و بمناسبة النزاع تفسيراً لأحكام الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالجنسية،و على المحاكم الالتزام بالتفسير المقدم،و لقد قضت المادة 38 قانون الجنسية بحق كل شخص في أن يرفع دعوى أمام المحاكم المدنية و بالضبط القسم المدني ضد النيابة العامة يكون موضوعها استصدار حكم بتمتعه أو عدم تمتعه بالجنسية الجزائرية،كذلك للنيابة العامة بصفتها ممثلة للمجتمع أن ترفع دعوى ضد أي شخص من أجل إثبات تمتعه أو عدم تمتعه بالجنسية الجزائرية،و سواء رُفعت دعوى إثبات الجنسية من قِبل الشخص أو النيابة العامة فإنه طبقاً للمادة 39 من قانون الجنسية يتم الفصل في النزاع وفقاً للإجراءات العادية،و لقد ألزمت نفس المادة في الفقرة 2 النيابة العامة بأن تقوم في الحالة التي يتقدم فيها شخص بعريضة يطلب فيها إثبات تمتعه أو عدم تمتعه بالجنسية الجزائرية،بتبليغ نسخة من هذه العريضة إلى وزير العدل،و تكون الأحكام الصادرة في مجال الجنسية قابلة للاستئناف،و يتم نشر هذه الأحكام و القرارات النهائية بإحدى الجرائد اليومية،و تعلق بلوحة الإعلانات بالمحكمة المختصة.
"وَلَولا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا"
النساء113
والحمد لله الذي به تتم الصالحات، وصلي اللهم و بارك على نبينا محمد، وآله، وصحبه و سلم تسليما.
تم بعون الله بتلمسان الأربعاء 29 أفريل 2015